سؤال أطرحه بشأن ما انتهت إليه لجنة الخبراء العشرة من رجال القضاء، التي أعدت التعديلات الدستورية، لدستور مصر 2012، من أن تكون لكل هيئة من الهيئات القضائية، ميزانية مستقلة، تكون رقماً واحداً في الميزانية العامة للدولة، وما يعنيه ذلك من أن تفلت هذه الهيئات من الرقابة البرلمانية على الميزانية والحساب الختامي، كأقدم وأرقى رقابة برلمانية عرفها العالم، وهو الموضوع الذي تناولته على هذه الصفحة في الأسابيع الأربعة الماضية.

Ad

ومع تقدير ودون بخس للباعث النبيل للجنة الموقرة على المنحى الذي اتجهت إليه تعزيزاً لاستقلال القضاء، فإن ما نراه أن هذا المنحى يخرج عن المفهوم الصحيح لاستقلال القضاء، لأن الميزانية ليست من طبيعة العمل القضائي الذي يتمتع بالاستقلال، والذي لا يتم خلف جدران مغلقة، بل إن جوهر العمل القضائي هو العلانية، كما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات، ومع خضوع كل سلطة في الدولة للقانون، وهو ما ندلل عليه في ما يلي:

أولاً – المفهوم الصحيح لاستقلال القضاء

وأن استقلال القضاء يعني أن القاضي لا يخضع في قضائه لغير الدستور والقانون، وأنه لا يجوز لأي سلطة التدخل في قضائه أو في حسن سير العدالة.

أن معناه ألا يحاكم الشخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، أي الذي يعينه القانون سلفاً، وألا يسلب من المحاكم العامة ولايتها، وألا تنشأ جهة قضائية استثنائية، وأن يكون تحريك الدعوى الجنائية بأمر قضائي بعد تحقيق تجريه جهة قضائية، وأن تلتزم كل سلطات الدولة باحترام القضاء وتنفيذها، وأن القضاة غير قابلين للعزل، إلا في حالة عدم الصلاحية، التي تقررها مجالسهم الخاصة على أساس من افتقار القاضي للنزاهة أو الكفاية أو التجرد.

وقد كان استقلال القضاء في صدر الإسلام مضرب الأمثال، دون أن يكون هناك دستور أو قانون يقرر هذا الاستقلال لأنه مستمد من طبيعة الرسالة التي يحملها رجال القضاء.

ثانياً – الميزانية ليست عملاً قضائياً

ذلك أن طبيعة الرسالة التي يؤديها القضاء، وهي الفصل بين المتخاصمين، هي التي فرضت هذا الاستقلال، عن أي سلطة في الدولة، وقد أصبحت كل سلطة فيها تخضع للرقابة القضائية، فالسلطتان التشريعية والتنفيذية تخضعان للرقابة القضائية على دستورية القوانين، الأولى في ما تصدره من تشريعات والثانية في ما تصدره من لوائح، كما تخضع الثانية كذلك لرقابة المشروعية التي يمارسها مجلس الدولة، وتمارس المحاكم سلطتها الكاملة على ما تمارسه الإدارة من إجراءات تمس الحريات، وهي تلاحق الجرائم ومرتكبيها، كما تمارس المحاكم سلطتها في الرقابة على قرارات السلطة القضائية ذاتها في تعيين وترقية وتأديب رجالها.

ولهذا لا يخضع القاضي في قضائه لغير ضميره، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا، ولو كانت هذه السلطة هي السلطة القضائية ذاتها ممثلة في المجالس العليا للهيئات القضائية.

أما الميزانية وهي البيان التقديري للإيرادات والمصروفات، فهي أبعد ما تكون عن العمل القضائي، وهو ما يصدق كذلك على الحساب الختامي لإيرادات ومصروفات السلطة القضائية، فلا يجوز أن يكون أيهما حصيناً من رقابة البرلمان، لأن أيهما ليس عملاً برلمانياً ليتمتع بالاستقلال.

ثالثاً - العلانية في العمل القضائي

وهي العلانية التي تحرص الدول الديمقراطية على النص عليها في دساتيرها وقوانينها، فالمحاكمات يجب أن تتم تحت سمع وبصر ورقابة الرأي العام في جلسات علانية، تحرص دساتير كل الدول على النص عليها كأصل عام، وكضمانه لحسن سير العدالة وتحقيقها.

ولا أعتقد أنه في قضائنا الشامخ من يطلب التستر على خطأ أو انحراف، بل إن مقدرة القضاء ومفخرته، هو ديمقراطية القضاء، والتي تتمثل بعلانية الجلسات، ووجوب صدور الحكم في جلسة علنية، وتعدد درجات التقاضي، وحرية القاضي في تكوين عقيدته، واحترام رأي الأقلية في المداولة، وسرية المداولة، وعدم جواز تدخل أي قاض مهما علت مرتبته في قضية مطروحة أمام أصغر وأحدث قاض.

بما لا يجوز معه إسدال جدار من الصمت والسرية على موازنات الهيئات القضائية، وأن تتم مناقشتها خلف جدران مغلقة، في اجتماعات تضم مجالسهم الخاصة، بعيداً عن رقابة الرأي العام، وجلسات البرلمان العلنية.

وإذا كان العمل القضائي ذاته، الذي يتمتع القضاء بسببه بالاستقلال، يخضع للمراجعة ورقابة الرأي العام، ولا يتم خلف جدران مغلقة، فما الأساس المنطقي لتحصين ميزانيات الهيئات القضائية وحساباتها الختامية من الرقابة الشعبية الممثلة في البرلمان؟

رابعاً- مبدأ الفصل بين السلطات

ولقد تجاهل مشروع التعديلات الدستورية لدستور 2012، والذي وضعته هذه القامات الرفيعة من لجنة الخبراء العشرة، مبدأ الفصل بين السلطات، وهو جوهر النظام الديمقراطي، والذي يقوم على أن كل سلطة من السلطات الدستورية الثلاث تحد من السلطة الأخرى، وفقاً للمقولة الشهيرة لمونتسكيو الذي كان من أول من نادوا به

Le pouvoir arête le pouvoir وهو المبدأ الذي لا يجوز معه للسلطة القضائية أن تسلب من السلطة التشريعية اختصاصاً مقرراً لها في الرقابة البرلمانية على الميزانية العامة للدولة، بكل فروعها وسلطاتها، ومنها السلطة القضائية، بل إن السلطة التشريعية ذاتها، يجب أن تخضع ميزانيتها وحساباتها الختامية لرقابة البرلمان ممثلة في أعضائه، الذين انتخبهم الشعب لبسط رقابته على كل إنفاق للمال العام، حماية لحرمته التي نص عليها الدستور.

خامساً- الخضوع للقانون

إن مبدأ سيادة القانون والخضوع لأحكامه، هو مبدأ يعلو كل سلطة في الدولة، وأن القضاء عليه أن يضرب المثل في الخضوع للقانون، والدستور هو أبو القوانين جميعاً، الذي يحدد لكل لسلطة اختصاصاتها، بما لا يجوز معه لأي سلطة أن تجاوز ما حدده لها الدستور من اختصاصات، أو النزول عن اختصاص قرره لها الدستور.

وبما لا يجوز معه في وضع دستور لمصر، أن يكون محلاً للمطالب الفئوية لواضعيه، بما يسلب نواب الشعب في البرلمان القادم حقاً تقرره كل الدساتير لبرلماناتها.