في مقدمته لكتاب {تحديات الثقافة العربية} يعتبر جابر عصفور أن أهم التحديات التي يطرحها الكتاب من منظور علاقة الثقافة العربية بغيرها، هي مشكلة العولمة. وقد تحدث كثيرون عن العولمة، ولكن المؤلف سليمان إبراهيم العسكري يركِّز في كتابه على الكشف عن سلبياتها وإيجابياتها معاً، مساعداً القارئ على أن يفيد من الإيجابيات، ويترك السلبيات. فالعولمة تقوم على الأساس الاقتصادي بالدرجة الأولى، وتسعى إلى إلغاء الحواجز الوطنية أو السياسية التي يمكن أن تعوق حركة الشركات متعددة أو متعدية الجنسيات، ذلك لأجل تحويل الكرة الأرضية إلى سوق مفتوح أمام هذه الشركات، وذلك في المدى الذي يؤدي إلى فرض نمط اقتصادي واحد مهيمن على كل الكرة الأرضية.

Ad

يضيف عصفور أن التحدي الثاني الذي يواجهه الكتاب هو ما يمكن أن يترتب على العولمة من تنميط الثقافة الإنسانية، وإشاعة نموذج ثقافي واحد مفروض على أقطار الكوكب الأرضي بغواية الثروة (الاقتصاد) والسياسة (أساليب الهيمنة). وهو تحد يواجهه المؤلف برفض التجليات الثقافية الحديثة من المركزية الأوروبية الأميركية، ويضع في مواجهتها مفاهيم التنوع الثقافي الخلاق التي تبنتها أقطار العالم الثالث في اليونسكو، والتي تعبر عنها كلمات غاندي {لا يضيرني أن أفتح نوافذ بيتي كلها لتهب عليها الرياح من كل اتجاه، شريطة ألا تقتلع هذه الرياح أساس البيت}. ولزيادة قدرة الثقافة العربية على الإضافة، فعليها الحفاظ على ثرواتها المتمثلة في عقول المتميزين من أبنائها، وتعمل على إيقاف نزيف العقول العربية وهجرتها إلى الدول الأجنبية المتقدمة التي تغري عقول أبناء العالم الثالث بما لا تسمح به أنظمتهم السياسية، أو تعصب تياراتهم الدينية، أو تخلف عاداتهم الاجتماعية. وعندئذ تواجه أهم التحديات التي تعانيها الثقافة العربية، وهي غياب الحريات على مستويات كثيرة تصل الثقافة بالسياسة، والسياسة بالإبداع، والإبداع بالفكر، والفكر بالدين، والدين بالمجتمع.

إشكاليات

قسّم العسكري كتابه إلى خمسة فصول، تناول الفصل الأول {إشكاليات التنمية الثقافية العربية} قضايا عدة كالثقافة والتعليم في العالم العربي، الواقع الثقافي العربي، التنمية الإسلامية، والتحديات والمستجدات التي تواجه الثقافة العربية. أما الفصل الثاني فقد وضعه المؤلف تحت عنوان {العرب والآخر في سياق العولمة}، ويناقش فيه علاقة العرب بالآخرين، فيسلط العسكري الضوء على قضية صراع الحضارات، وعلى صورة العرب في الغرب، والتجدد الحضاري، ووضع العرب بين أميركا والكيان الصهيوني. بينما يشير في الفصل الثالث {مفاهيم وقضايا} إلى أمور من قبيل رأس المال الثقافي، الإعلام الأصفر، عصر ثقافة الصورة، الهوية وثقافة الاختلاف. وفي الفصل الرابع {العرب وجدل التكنولوجيا}، يتحدث العسكري عن التكنولوجيا الخادعة وانتصار العبث والتعليم العلمي والتكنولوجي، فضلاً عن إعاقات مجتمع المعرفة في مطلع الألفية الثالثة، ومجتمع المعرفة، والوسائط الجديدة في نقل التكنولوجيا. أما الفصل الخامس {اللغة والتعريب والترجمة}، فقد خصصه العسكري للحديث عن اللغة وتحدياتها في القرن الواحد والعشرين، حيث يتكلم عن العرب وتعريب العلوم، والتغريب، والعربفونية التي توازي الفرانكفونية والإنغلوفونية، والنقل من علوم الآخرين ومعارفهم.

مستجدات

يحاول العسكري رصد أهم مظاهر المستجدات على المشهد الثقافي العربي العام، فيلاحظ من بينها قضية الوحدة والتنوع التي تتعلق بقضية التعددية الثقافية والأقليات في ضوء حالة تنامي النعرات الطائفية في أكثر من بلد عربي، بصورة لافتة وفي وقت متزامن تقريباً، وهو ما يقتضي العمل على انتشار مبادئ التعددية الثقافية، بديلاً للروح الأحادية أو الفكرة الوحيدة. يلاحظ أيضاً، شيوع ظاهرة التطرف الأصوليات، وما أحدثته من توسيع للفجوة بين العالمين العربي والغربي، وتشكيل المغالطات الفكرية حول الإسلام وممارسته. هذه الظاهرة التي تزامنت مع شيوع الأمية الأبجدية والثقافية، وتغليب للخرافات على حساب الأفكار العلمية والمستنيرة.

يضيف الكاتب أن ذلك كله يطالب التخطيط الثقافي في العالم العربي، بوضع برامج أساسية تهتم بكشف حقيقة الفكر الرجعي المتخلف وعلاقته بالسياسة، وإشاعة الفكر المستنير الذي يقدم للشباب العربي الحقائق عبر أطر معرفية منهجية تعتمد على مرجعيات عدة من دون التقيد بمصدر واحد، كما هو شأن كل محاولة منهجية للمعرفة، فضلاً عن توفير المصادر الثقافية والمعرفية، وإتاحتها بالنشر الواسع والبث، للتأكيد على أهمية التنوع الثقافي الخلاق في مسيرة المعرفة البشرية نحو المستقبل، وعلى دور هذا التنوع الثقافي في القضاء على الهيمنة أحادية القطب أياً كانت.

يتابع العسكري، أن ذلك كله مرهون بقضية الحريات، وعلاقتها بحرية المعرفة والتعبير لأنها جوهر كل إبداع خلاق والعصب الأساس للتنوع الإبداعي، وجوهر توفير المعرفة وما يستتبع ذلك من بناء عقل نقدي قادر على الفرز والتقييم كل ما يتلقاه من أفكار ومعارف، بناء على منهج عقلي متطور يرفض وسائل المتلقين كافة.

في باب بعنوان {صورتنا في الغرب}، يقدم المؤلف أهمية هذه الصورة، فمن الناحية الأخلاقية، لم يعد ممكناً تجاهل وجود عشرات الملايين من العرب والمسلمين يعيشون في البلدان الغربية، والتي لا يمكن فصلها عن الجسم الغربي. هؤلاء الملايين من العرب والمسلمين في الخارج، تؤثر فيهم أي إضافة لصورة العربي والمسلم لدى الإنسان الغربي، الذي يعايشونه ويعيشون على أرضه، ويشاركونه لقمة العيش. أما علمياً، فلا يمكن تصوراي تبادل صحي في المنافع الاقتصادية والمعرفية والحضارية، بين فرقاء يسود بينهم الكره المؤسس على انطباعات سيئة. كذلك العرب والمسلمين لا يمكن أن يعيشوا في مجتمع منغلق، فهذا غير ممكن، وغير مرغوب، وغير مطلوب، مهما كانت التوجسات من هذا الغرب. أما ثقافياً فيصعب تصور أي نمو ثقافي لدى أي كيان وطني، في عالم اليوم، من دون انفتاح على العالم الأوسع، الذي بات مجرد قرية صغيرة، وفي هذه القرية تذبل الثقافة النوعية لأي جماعة بشرية إذا دمغ أصحابها بأنهم أبناء ثقافة معادية لبقية البشر.