الأصل في "القضاء" أنه في غنى عن الدفاع إلا أن "القضاء العربي" اليوم في بعض الدول العربية يتعرض لهجمة شرسة من قوى سياسية تريد تطويعه لمصالحها السياسية، فإن جاء الحكم القضائي لمصلحتها رضيت وأثنت على القضاء، وإن جاء على غير ما تهوى رفضت وثارت وهيجت الجماهير واتهمته بالتسييس، هذا السلوك غير الحضاري وغير السوي هو أحد الإفرازات السلبية للربيع العربي التي أسقطت "هيبة الدولة" ومؤسساتها، وجرّأت الشارع لرفض أحكام القضاء والتشكيك فيها.

Ad

 هذا ما رصدناه في مصر حين دعت جماعة الإخوان أنصارها إلى التظاهر ضد القضاء في مليونية تطهير القضاء، فقام الغوغائيون بالتطاول والإساءة إلى القضاة ومحاصرة دور العدالة بهدف إرهابهم ومنعهم من التعرض لقراراتهم الانفرادية المخالفة للدستور.

 وفي الكويت التي وصلتها العدوى المصرية تجمع الآلاف في ساحة "الإرادة" معبرين عن رفضهم لحكم المحكمة الدستورية بحل مجلس أمة 2012 (الأول) لخطأ إجرائي، وصعدت المعارضة لتندد بالحكم وتقول إنه مسيس، وإن هناك مؤامرة عليها وهيجت الجماهير للنزول إلى الشارع متجاوزة كل الخطوط الحمراء، ومتدخلة في عمل القضاء، ومعتبرة نفسها حكماً فوق القضاء الدستوري، وقررت بكل جرأة أن حكم المحكمة منعدم.

 ومثلما احتكم الإخوان في مصر إلى جماهيرهم تحت شعار "الشعب يريد تطهير القضاء" فعلت الأغلبية المعارضة في الكويت تحت شعار "إرادة الأمة فوق كل السلطات"، وغاب عن كل هؤلاء المهيجين أن القضاة في ممارسة أعمالهم، لا يجوز تناولهم مدحاً أو قدحاً، كما لا يجوز التعليق على أحكام القضاء حمداً أو ذماً– إلا بعد أن يصير الحكم نهائياً وفي إطار النقد الموضوعي البناء والمثري للحكم– كما لا يحق لأحد أن يفتش في دوافع القاضي وبواعثه ولا في عقيدته الدينية أو توجهاته الفكرية والسياسية.

 فضلاً عن أن يعرض به أو يتشكك في ذمته أو نزاهته، فذلك جريمة عاقب عليها القانون الجزائي كل من أخل بمقام قاض أو هيبته أو سلطته، وكل من نشر أمراً من شأنه التأثير في القضاة أو التأثير في الرأي العام لمصلحة الطرف أو ضده، هذه الأصول القضائية المستقرة، وهذه التقاليد القانونية الراسخة، تتعرض اليوم للتشكيك من قوى سياسية تسعى إلى الفوضى وحكم الشارع الغوغائي، والويل لأمة تسمح بمثل هذا العبث.

 إن احترام هيبة القضاء "السلطة" والقضاة "الأفراد" فرض عين على كل فرد، فضلاً عن أنه فريضة مجتمعية، وما ذلك إلا لأن حياة المجتمعات والدول لا تسقيم إلا به، إذ لا أمان ولا ضمان ولا استقرار ولا تنمية ولا إنتاج إلا بترسيخ احترام القضاء والقضاة في البنية المجتمعية العريضة.

 إن مجتمعاً يسمح للشارع أن يشكك في أحكام القضاء ويتظاهر ضدها، إنما يرتضي حكم الغوغاء! وذلك لا يشرف أي مجتمع متحضر، فالعدوان على القضاء عدوان على كل القيم والمبادئ المستقرة في الضمير الإنساني.

 اليوم، أصدرت المحكمة الدستورية الكويتية حكماً تاريخياً بإبطال مجلس أمة 2012 (الثاني) لخطأ إجرائي وذلك للمرة الثانية خلال عام واحد، فبادر سمو أمير الكويت فوراً وبطيبة نفس وأريحية جميلة إلى توجيه خطاب للشعب الكويتي، مرحباً بالحكم وممتثلاً له وداعياً جميع المواطنين إلى احترامه والامتثال له "إجلالاً واحتراماً لقضائنا الشامخ وإعلاءً لمنزلته والتزاماً بدستورنا"، كما وجه الحكومة لتنفيذه.

 هذا مسلك الكبار وأخلاقياتهم، حماة الأصول والمبادئ والقيم، أهل القدوة العالية، وهذا هو شأن المجتمعات المتحضرة، وهذا ما ينبغي غرسه في نفوس الناشئة (احترام القضاء فرض عين) وهذا ما ينبغي تأكيده اليوم، لأننا أصبحنا في زمن تتعرض فيه كل الثوابت والتقاليد المستمرة إلى زعزعة كبيرة وتشكيك ظالم.

 إننا اليوم في حاجة ملحة إلى تعزيز هذه الثوابت المعرضة لزلازل الأهواء وعواصف الأمزجة المتقلبة بعد ثوران براكين الربيع الذي لم يقلب أنظمة حاكمة فحسب، بل هز قيماً ومبادئ وتقاليد مستقرة، إننا اليوم بحاجة ماسة لتأكيد أن "القضاء مرجعية حاكمة للفصل في النزاعات والاختلافات وأن أحكامه عنوان الحقيقة".

 يأتي حكم المحكمة الدستورية بعد ترقب مضن من المجتمع الكويتي وفعالياته ومنظماته وبرلمانه وحكومته على امتداد 8 أشهر، ليبطل البرلمان المنتخب (وليحصن مرسوم الصوت الواحد الذي أصدره سمو الأمير 21/10/2012 هذا المرسوم الذي رفضته المعارضة بشراسة وقاطعت الانتخابات وهيجت الجماهير لمقاطعتها بحجة أنه "قرار انفرادي لا تستدعيه ضرورة".

 جاء الحكم مؤكداً الضرورة الملحة التي حتمت الإسراع بتعديل نظام التصويت من 4 أصوات إلى صوت واحد للناخب، ومؤيداً ما جاء في المذكرة الإيضاحية للحكومة من أن هذا التعديل استهدف معالجة أوجه القصور والسلبيات التي أفرزها نظام التصويت السابق، ومنها: بروز نزعات التعصب الفئوي وتصاعد مظاهر الاستقطاب الطائفي والقبلي؛ مما أضعف مقومات الوحدة الوطنية وأخل بتمثيل البرلمان للأمة تمثيلاً صحيحاً.

 ووازنت المحكمة بين الاعتبارات والأهداف التي ذكرتها الحكومة والمصلحة الوطنية التي تعلو فوق كل اعتبار، ورأت أنه لا مأخذ دستورياً على الحكومة في هذا التعديل، وبخاصة أن هذا المرسوم جاء إثر تعذر انعقاد مجلس 2009 لإصرار الأعضاء على عدم الحضور، وهو من أجمل ما ذكرته المحكمة في هذا الصدد، إبرازها مزايا قاعدة الصوت الواحد للناخب، قائلة: إنها قاعدة متبعة في العديد من الدول الديمقراطية، ومن شأنها أن تتيح للأقلية بأن يكون لها تمثيل في البرلمان وبخاصة أن النيابة عن الأمة إنما تقوم على قواعد منطقية ترمي إلى تمثيل آراء الناخبين على تشعبها في البرلمان (بحيث لا تطغى الأغلبية ولا تتلاشى آراء الأقلية) حتى يأتي البرلمان مرآة صادقة للرأي العام، كما أن من شأن هذه القاعدة أيضاً أن تحقق "تحرير المرشح من ضغط ناخبي دائرته وتأثيرهم عليه".

 لقد جاء حكم الدستورية عادلاً، فهو إذ أيد مرسوم الصوت الواحد، لتحقق حالة الضرورة، إلا أنه نقض مرسوم اللجنة العيا للانتخابات، لعدم تحقق الضرورة، جاء الحكم لينهي حالة الجدل في الساحة الكويتية حول مرسوم الصوت الواحد وليسجل القضاء الكويتي بسط رقابته حتى على مراسيم الضرورة، مؤكداً أن سلطة التشريع غير محصنة من رقابته، ولا شك أن هذا الحكم سيسهم بشكل كبير في تهدئة الساحة واستقرار الأوضاع وتنفيس الاحتقان السياسي لأن قطاعاً كبيراً من المعارضين للصوت الواحد كانوا ينتظرون الحكم ليحددوا مواقفهم المستقبلية.

 ولا شك أن هؤلاء سيشاركون في الانتخابات المقبلة بنظام الصوت الواحد والمحدد إجراؤها 25 يوليو، وبطبيعة الحال فإن من حق المتمسكين بالأربعة أصوات أن يقاطعوا طبقاً لما صرح به أحمد السعدون (إن كانت المقاطعة السابقة واجبة فإن المقاطعة في المرحلة القادمة أوجب) لكن عليهم أن يدركوا أن حجتهم اليوم أضعف.

 هكذا يساهم القضاء الكويتي في هذا الحكم العادل في تحجيم الخطاب السياسي، ويقوم بدور بارز في تثبيت الاستقرار والسلام الاجتماعي عن أجواء التشاحن والاستقطاب والتنافر وغيوم الطائفية السوداء، مؤكداً أن الكويت دولة مؤسسات بحق، يحكمها الدستور والقانون وألا سلطة تعلو سلطة الحق والعدل.

 ختاماً: القضاء الكويتي الشامخ باستقلاله ونزاهته وتجرده في غنى عن الدفاع، فتاريخه المشرف وإنجازاته المشهودة في سبيل الحق والعدل وحماية الحريات والحقوق، خير دفاع، كما أن القضاة –عامة- لا يبتغون في أعمالهم إلا وجه الله تعالى، والحق والعدل، فلا ينتظرون من أحد جزاءً ولا شكوراً، ومع ذلك فنحن مع المطالبين بتشديد القوانين المتعلقة بحفظ هيبة القضاء ومكانة القضاة الأفاضل بما يقطع التطاول والتشكيك والإساءة، وبما يعزز احترامهم وتبجيلهم، إذ لم يتعرض القضاء في تاريخنا الإسلامي كله، للإساءة، كما هو حاصل اليوم في ظل ثورات الربيع العربي.

*كاتب قطري