بوسعنا الاستناد الى تجربة المحرك البخاري الذي يُعدّ رمز العصر الصناعي لنتعلّم الكثير عن تحسين العالم في القرن الواحد والعشرين. ووفق ما أرّخه ويليام روزين في كتاب بعنوان «أنجح فكرة في العالم» The Most Powerful Idea in the World، احتاج تسخير قوة البخار إلى ابتكارات كثيرة، من بينها طريقة جديدة لقياس طاقة المحركات وجهاز ميكروميتر لقياس الأبعاد الصغيرة.

Ad

ويضيف روزين أن أدوات القياس هذه تتيح للمخترعين معرفة ما إذا كانت التغيرات الإضافية التي تلحق بالتصميم تؤدي إلى إدخال بعض التحسينات، كطاقة أكبر ومستوى أقلّ لاستخدام الفحم للتوصل إلى طرح محركات أفضل. يمكننا ان نستنتج درسًا أكبر هنا: يؤكد روزين إن من دون قياس دقيق، يبقى الاختراع تجربةً ناقصة، بينما تصبح للتجربة نتائج أكثر فاعلية مع اعتماد قياس دقيق.

بدأت أهتم بمسألة القياس والتقييم ودورهما في تحسين ظروف البشر خلال العام الماضي. تبيّن لي أنه بوسعنا تحقيق تقدّم عظيم إن  استطعنا تحديد هدفٍ واضح وعثرنا على أداة تقييم تدفع بهذا التقدّم قدمًا نحو الهدف المنشود، بحيث نحصل على نتائج مماثلة لتلك التي يصفها روزين.

يبدو الأمر مفتاحاً أساسيًا للنجاح، ومع ذلك تدهشني ندرة حدوث ذلك ومدى صعوبة تحقيقه. عبر التاريخ، تمّ قياس المساعدة الخارجية استنادًا إلى المبالغ المالية المستثمرة، وبمساعدة بلدٍ معيّن أثناء الحرب الباردة، وليس عبر قياسنا لأدائنا  لمساعدة الناس على تحسين ما يقومون به.

لن يترك أي ابتكار، سواءٌ كان لقاحًا جديدًا أو بذورًا محسنة، أثرًا إن لم يصل إلى من سيستفيد منه أولاً. لذلك نحتاج إلى ابتكارات في مجال القياس والتقييم للعثور على طرق جديدة وفاعلة لتوصيل هذه الأدوات والخدمات إلى العيادات والمزارع العائلية والمدارس.

خلال العام الماضي، وقعت على أمثلة عدة توضح الفارق الذي أحدثه اعتماد نظام القياس والتقييم هذا،  من مدرسةٍ في كولورادو وصولاً إلى مركزٍ صحي في إحدى المناطق الريفية في أثيوبيا. من النجاحات الكبرى التي ساهم فيها اعتماد القياس في تحسين الأداء، توقيع الأمم المتحدة في العام 2000 على اتفاقية تحثّ على التغيير العالمي. وقد حددت الأهداف الإنمائية للألفية التي حظيت بتأييد 189 دولة، عام 2015 كموعدٍ نهائي لتحقيق نسبة مئوية معينة من التحسينات في مجموعة من المجالات الحاسمة المصيرية – كالصحة والتعليم والدخل الأساسي.

عندما وقّعت أثيوبيا على الأهداف الإنمائية للألفية في عام 2000، حدّدت البلاد أرقامًا صعبة في طموحها الصحي إذ سعت إلى تأمين الرعاية الصحية الأساسية للمواطنين كافةً. وأدى الهدف الراسخ لهذه الأهداف الإنمائية بتخفيض معدل وفيات الأطفال بنسبة الثلثين إلى تحديد هدفٍ واضح يمكن استنادًا إليه قياس النجاح أو الفشل. وقد جذب التزام أثيوبيا بهذا الهدف مجموعة من الهبات المالية تساعدها على تحسين خدمات الرعاية الصحية الأساسية التي تقدمها لشعبها.

في شهر مارس الماضي، زرت مركز «جيرمانا جيل الصحي» في منطقة دالوكا في أثيوبيا، حيث اطلعت على ملفات لقاحات المناعة وحالات الملاريا وغيرها من بيانات معلقة على جدران المركز. تشكل هذه المعلومات جزءًا من نظام معين (سُجل قسم منه على الورق في حين تمت حوسبة القسم الآخر منه) يساعد موظفي الحكومة على تقييم حسن سير العمل واتخاذ الإجراءات المناسبة في الأماكن حيث تتعثر الأمور وتتعقد. في السنوات السابقة، ساعدت البيانات التي تمّ جمعها من أماكن العمل الحكومة على الاستجابة لمكافحة الملاريا والحصبة في شكلٍ أسرع.

يقدم العاملون معظم الخدمات في المراكز الصحية، إلا أنهم يزورون أيضًا الحوامل والمرضى في منازلهم، ويتأكدون من توافر ناموسية في كل منزل لحماية أفراد الأسرة جميعًا من الملاريا ومن نظافة المرحاض، فضلاً عن تدريبهم على الإسعافات الأولية وغيرها من ممارسات الصحة والسلامة الأساسية.

مركز صحي

وُلِدت سيبسيبيلا ناصر في عام 1990 حين كانت الظروف في أثيوبيا تخطف 20% من الأطفال قبل بلوغهم الخامسة من العمر. وكان اثنان من أشقاء سيبسيبيلا وشقيقاتها قد توفيا صغيرين. ولكن حين فتح مركز صحي أبوابه في دالوكا، بدأت الحياة تتغير.

 في العام الماضي، حين حملت سيبسيبيلا حظيت بفرصة زيارة هذا المركز للخضوع للفحص في شكلٍ دوري. في 28 نوفمبر، سافرت إلى مركزٍ صحي حيث اطمأنت إلى وجود قابلة قانونية إلى جانبها تساعدها وتحرص على تقديم ما تحتاج إليه من خدمات أثناء ولادتها التي استمرت سبع ساعات. بعد فترةٍ قصيرة من ولادة طفلتها، أعطى عامل صحي الطفلة لقاحات ضدّ شلل الأطفال والسلّ.

وفقًا للعرف الأثيوبي، ينتظر الآباء بعض الوقت لتسمية أطفالهم لأن الموت غالبًا ما يخطفهم في الأسابيع الأولى بعد الولادة. حين وُلِدت ابنة سيبسيبيلا الأولى منذ ثلاث سنوات مضت، اتبعت الأم العرف السائد وانتظرت شهرًا قبل أن تسمّي ابنتها. إلا أن سيبسيبيلا كانت واثقة بفرص ابنتها بالحياة فسجلتها باسم {أميرة} في الخانة المخصصة لاسم الطفل على بطاقة التلقيح التي سلّمها إياها العامل الصحي يوم وُلِدت. ليست سيسيبيلا وحدها من زاد لديها الأمل بالحياة بل بات عدد كبير من الأهالي أكثر أملاً في عدم وفاة أولادهم فور الولادة.

نجحت أثيوبيا في خفض معدل وفيات الأطفال بنسبة تزيد عن 60% منذ عام 1990 بعدما ساهمت جهود حكومتها في وضع البلاد على المسار الصحيح الذي يؤدي بها إلى تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الرامية إلى خفض وفيات الأطفال بنسبة الثلثين مع حلول عام 2015، بالمقارنة مع النسبة المسجّلة عام 1990.

شلل الأطفال

ساهم نظام القياس والتقييم هذا الى تحقيق نجاح آخر على مستوى محاربة شلل الأطفال. منذ عام 1998، وضعت المنظمات الصحية العالمية نصب عينيها هدف القضاء على شلل الأطفال، معتمدةً على إرادة سياسية ومحفظة نقودٍ كبيرة لتمويل حملات تلقيح على نطاق واسع. مع حلول عام 2000، تمّ محو هذا الفيروس تقريبًا. حتى إن عدد المصابين به انخفض إلى ما دون الألف حالة حول العالم.

لإنجاح هذه المهمة، عبر العاملون المشاركون في هذه الحملات مناطق خطيرة في الجزء الشمالي من البلاد، ما ساعدهم على إضافة 3000 مجتمع إلى حملات التلقيح. علاوةً على ذلك، يستخدم البرنامج صورًا عالية الدقة من القمر الاصطناعي لإنشاء مخططات أكثر تفصيلا.

فضلاً عن ذلك يدرس البرنامج إمكان استعمال هواتف مزودة بتطبيق نظام تحديد المواقع العالمي ليتمكن المسؤولون عن أعمال التلقيح الاستفادة منه. يتمّ تحميل المسارات عن الهواتف في نهاية اليوم ليتمكن المديرون من متابعة الطرق التي سلكها المسؤولون عن التلقيح ومقارنتها بالطرق التي سبق وحددوها. وهكذا يتأكدون أنّ الحملة غطّت المناطق كافةً ويتمكنون من إعادة زيارة المناطق التي أغفلوها.

أؤمن بشدة أن اعتماد هذه الأنواع من نظم القياس والتقييم سيساعدنا على القضاء على شلل الأطفال في غضون ست سنوات.

التعليم

أثبت نظام القياس والتقييم على تحقيق تقدّم ملموس في مجال التعليم. في أكتوبر، جلسنا، ميلندا وأنا، بين عشرات الطلاب في ثانوية وادي إيغل على مقربةٍ من فايل، كولورادو. كانت ماري أن ستافني، وهي معلمة فنون اللغة، تشرح درسًا في كيفية كتابة مقطعٍ روائي واقعي، وكانت تسير بين التلامذة لتشجيعهم على الكلام وإشعال روح المشاركة بينهم.

عُيِّنت ستافني مدرّسة أولى بناءً على مشروعٍ أسسته جمعيتنا يمتدّ على ثلاث سنوات وهدفه بناء نظام تقييم  للمدرّسين يساعد على قياس أدائهم في الصف. سلّط المشروع الذي جمع معلومات من 3000 مدرّس الضوء على مقاييس متعددة يتعيّن على المدارس استعمالها لتقييم أداء الأساتذة بما فيها بيانات الاختبار والمسح الخاص بالتلامذة عبر أشخاص مدربين ومؤهلين. على مدى عامٍ دراسي، خضع مدرّسو ثانوية إيغل كاونتي للتقييم ثلاث مرات وشارك أستاذ أول يُعرف باسم الأستاذ المستشار في حصصهم لمراقبتهم ومتابعتهم تسع مرات على الأقل.

لا يستخدم نظام تقييم مدرسة إيغل كاونتي لمنح الأستاذ علامةً فحسب، بل لتقديم ملاحظات عن المجالات التي تحتاج إلى تحسين وعن الطرق التي يمكن اعتمادها لترسيخ نقاط القوة لديه. بالإضافة إلى التدريب الفردي، ينظم المستشارون والأساتذة اجتماعات أسبوعية يتعاونون من خلالها على نشر مهاراتهم. ويتأهل الأساتذة لزيادة سنوية على المعاش ولمكافآت استنادًا إلى ملاحظات الصف وإلى إنجازات التلامذة.

في البلاد الفقيرة، ما زلنا بحاجة إلى طرق أفضل لقياس فاعلية عددٍ كبير من العاملين الحكوميين الذين يجتهدون لتوفير الخدمات الصحية. يُعتبر هؤلاء العاملون وسيلة اتصال مهمة تساعد على جلب الأدوات كاللقاحات والتعليم إلى من يحتاج إليها بقوة. ولكن، هل تلقى هؤلاء تدريبًا جيدًا؟ هل يتابعون عملهم على أكمل وجه؟ كيف يساعدهم نظام القياس والتقييم على تحسين أدائهم؟

في ما خص الزراعة، قد يساعد توجيه الإنتاجية العالمية  الدول على التركيز على أمور أساسية ومهملة ألا وهي كفاءة مئات الملايين من المزارعين الصغار الذين يعيشون في فقر مدقع وإنتاجيتهم. قد ننجح في قطع شوطٍ كبير في اتجاه تحقيق هدفنا الرامي إلى خفض مستوى الفقر إن تمكنا من الحصول على بطاقات نتائج عامة تُظهِر كيف تساهم حكومات الدول النامية والجهات المانحة، وغيرهما من جهات في مساعدة هؤلاء المزارعين.

لو أمكنني استعمال عصا سحرية، كنت لأقدّم طريقة لقياس تأثير التعرض للمخاطر كالمرض والالتهابات وسوء التغذية ومشاكل الحمل على الأطفال وعلى قدرتهم على التعلم والمساهمة في تنمية المجتمع، كنت لأتمنى الحصول على طريقة قياس وتقييم تساعدنا على تحديد أثر هذه المخاطر على مجتمعاتنا بغية معالجة تداعياتها بالشكل المطلوب.

تحسّنت حياة أكثر الناس فقرًا بشكلٍ أسرع خلال الخمسة عشر عامًا الماضية بالمقارنة مع فترات سابقة. وأنا متفائل جدًا أننا سنحقق نتائج أفضل خلال السنوات الخمس عشرة التالية. يساعدنا النظام الذي وصفته، على تحديد أهداف واضحة، اختيار منهج، قياس النتائج ومن ثم استعمال تلك المقاييس لتحسين نهجنا، على تقديم أدوات وخدمات لكلّ من سيستفيد منها سواء كانوا تلامذة في الولايات المتحدة أو أمهات في أفريقيا. وباتباع مسار المحرك البخاري، منذ فترة طويلة، وبفضل نظام القياس هذا، لم يعد التقدّم حلماً بعيد المنال لأننا نملك بحقٍ الأدوات التي تسمح لنا بجعل العالم مكاناً أفضل!

* بيل غيتس | Bill Gates ، الرئيس المشارك لمؤسسة بيل وميليندا غيتس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»