بفعل الهجرة واللجوء والنزوح من بلدان أوروبا الشرقية الى البلدان الناطقة بالإنكليزية، طلع علينا شعر انكليزي ذو مذاق خاص تماماً. أبرز ما في هذا المذاق ميله الى معالجة الحيرة الروحية، والمشاعر الملتبسة خارج دائرة الحيرة والالتباس اللغويين. الشعر الانكليزي المتأخر شديد الغرق في اعتماد الكلمات باعتبارها أشياء، تحاصر المعاني في قفصها. وإذا أضفنا عنايته بما هو يومي، فستأخذه المحلية الى دائرة لا يحسن غير الانكليزي الدخول إليها والتعامل معها. دعك عن فهمها واستيعابها. الشعر الانكليزي لغير الانكليز من المهاجرين لم يدخل دائرة المحلية هذه، بل ظل يرتاد سبل حيرته والتباسه خارج التمارين والمغامرات اللغوية.

Ad

الشاعرة كابكا كاسابوفا (مواليد 1973) واحدة من هذه الأصوات في الشعر الانكليزي. نشأت في صوفيا، بلغاريا، ومنذ 1990 اعتادت العيش متنقلة بين انكلترا، وفرنسا، وألمانيا، ونيوزيلاندا. وقد انعكس هذا التجوال في شعرها، لا بهاجس السائح أو المكتشف أو المغامر، بل بهاجس المغترب المشرد. ولكنني لم ألمس شكوى أو حنيناً في هذا الهاجس، بل لمست رغبة في الإجابة عن أسئلة تتجاوز الزمان والمكان.

في قصيدة «حياتي في قسمين»، على سبيل المثال، تتأمل الشاعرة وهي طفلة في بلادها البلقانية صُفّة أشجار الحور المنتظمة، خارج نافذة بيتها. تتأمل السماء المليئة بالنجوم، والأفق البارد الذي يردد أصداء الذئاب البعيدة المتوعدة. ولكنها في هذه الغرفة الباردة تحلم بأشجار النخيل وبالعالم. أشجار النخيل ترمز طبعاً للبلدان القارية المشمسة. حين تنتقل في سنوات النضج، بدافع الهرب أو الهجرة، الى نيوزيلاندا تتأمل من غرفتها أشجار النخيل والسماوات القارية الدافئة، حيث المحيط يلاحق القمر، والببغاوات تتأرجح على سعفات النخيل. ولكنها من تلك الغرفة تعود الى الحلم بصُفّة أشجار الحور القديمة المنتظمة، وهي تقبل عليها من الذاكرة.

إن تغير المكان والزمان لم يطلق الشاعرة من الأسر! والحلم بالشمس والحرارة المقترنة بالطبيعة والعفوية لا يختلف كثيراً عن الحلم بالمناخات الباردة المقترنة بالنظام والأمان. كل منهما مجرد محطة لقطار لا وجود له إلا داخل القصيدة.

كاسابوفا الشابة بدأت مع الشعر باللغة الانكليزية مباشرة. قطعت شوطاً ناجحاً منذ مجموعتها الأولى التي أصدرتها في نيوزيلاندا تحت عنوان «كل الطرق تقود الى البحر»، (1997)، وقد حازت جائزة المؤلفين النيوزيلانديين. بعدها أصدرت مجموعة ثانية، وسرعان ما خبرت فن الرواية فنجحت في روايتين صدرتا عن الدار الشهيرة «بنجوين».

المجموعة الشعرية «حياة شخص ما آخر» أول مجموعة تصدر لها في انكلترا. وقد ضمنت فيها شيئاً من قصائد مجموعتيها السابقتين، فهي بهذا تعطي صورة واضحة لصوتها الشعري، الغنائي، المتبسط والبعيد المرامي في آن.

غنائية كاسابوفا تكشف عن غنى موسيقي في تلاحق الأبيات، وعن غنى في المخيلة التي لا اعتباط فيها، رغم غرائبيتها أحياناً: «في ليلةٍ في محطة القطار/ ثمة فتاة نائمة، أو شخص ما نائم/ يشبهها». إنها تطمع أن تولد من المفارقة في المشهد، أو الحدث، تلك الدلالات البعيدة التي تنتسب الى ما هو ميتافيزيقي. ولا تميل الى المفارقة في اللغة. حيرة روح الكائن الذي ألف الهجران منذ الصغر فشحذ حواسه، وصار يحسن التحديق في عالم شديد الاضطراب، قليل الأمان، ولا ملاذ فيه أو خلاص.

«حقق لقاءً مع الجسد: جميلاً كان أو قبيحا».

فللجسد الكلمة الفصل.

ليلاً ينام دون رأس/ على وسائد من الريش الأسود

ويختض لذةً وألما.

نهاراً يعبر في نومه غرفاً ومدناً/ محاكياً حيويتها الخاصة.

أحياناً تسمع صوته/ يخترق رصيفاً أو سماءً فظة.

أنّى لك أن تمتلكها/ تلك الممرات المعلومة والمجهولة

لمعبد الزمن الفائض عن الحاجة هذا؟

أنّى لك أن تفهم الجسد/ إذا ما كان نقيض العقل؟

غداً سيتلاشى./ فلا تحاول ملاحقته

فللجسد تبقى الكلمة الفصل.

تمسّك به ما استطعت/ وما استطعت فلتعشْ في داخله.

أما بعد فسيتكفل أحد ما بجمع الرماد.