كثيراً ما نقرأ عن منازل الأدباء الأجانب وطقوس كتاباتهم وأماكن مروا بها ودوّنوا اسماءهم في سجلاتها ودفاترها. أحد الفنادق في باريس، مثلاً، يضع لوحة على مدخله كتب عليها «هنا نزل جان بول سارتر»، للتعبير عن أهمية الشخصيات الأدبية والفكرية في تلك البلاد، وجزء من «جماليات المكان» بحسب الكاتب الفرنسي غاستون باشلار.

Ad

 ظاهرة الاهتمام بأمكنة المبدعين تبدو ضعيفة وهشّة في بلد مثل لبنان، فاللوحات التذكارية للأدباء والمبدعين قليلة جداً أو هامشية، منها لوحة للمسرحي مارون النقاش في شارع «الجميزة»، وأخرى لمؤسس مجلة «المكشوف» فؤاد حبيش قرب بناية العازارية (وسط بيروت). تدلّ هذه اللوحات على التغيير الديموغرافي والعمراني اللذين حصلا في تلك الأمكنة، خصوصاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) ثم مرحلة البناء والإعمار.

ومعظم منازل الأدباء في لبنان مصائرها مجهولة، أو موضع تهميش وخلاف بين الورثة. منزل الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) في منطقة القنطاري البيروتية لا نعرف عنه شيئاً، ومنزل «شاعر الشعب» عمر الزعني في منطقة الظريف استحال مبنى سكنياً، منزل خليل مطران في بعلبك لم يبق منه إلا تمثاله قرب القلعة الرومانية أما مؤلفاته فمجهولة، ومنزل المفكر حسين مروة الذي اغتالته القوى الظلامية عام 1987 يسكن فيه نجله ولا تزال مكتبته كما هي.

محمود درويش الذي عاش سنوات طويلة في بيروت لا نجد لوحة تذكارية تكرّمه، نعرف بيروته من خلال قصائده وهو الذي سكن في منطقة «الفاكهاني» (معقل التنظيمات الفلسطينية قبل الاجتياح الاسرائيلي عام 1982)، وأمضى سنوات في شارع الحمراء، في منزل يقطنه اليوم أحد المحامين.

 الروائي اللبناني الأصل، الفرنسي الجنسية أمين معلوف سكن مع أسرته في منزل من البيوت العائدة إلى مرحلة الثلاثينايت في منطقة «بدارو» (بيروت) قبل أن يهاجر إلى باريس، والفضيحة أن وزارة الثقافة اللبنانية أعطت ترخيصاً لإحدى الشركات لهدم المنزل، قبل أن تحدث ضجة إعلامية ويلف المنزل شيء من الغموض. منزل طفولة الفنانة فيروز كاد يتحوّل ركاماً في منطقة «زقاق البلاط»، لكن تحقيقاً تلفزيونياً حوله دفع بلدية بيروت إلى المسارعة في شراء العقار والسعي إلى تحويله متحفاً، والمشروع ما زال عالقاً منذ سنوات في مستنقع المعاملات الروتينية والإدارية.

حارة المجنون

كثر من الشعراء والكتّاب العرب، سكنوا في بيروت ولبنان، تركوا أثرهم في الوسط الثقافي، ولكن المكان الذي عشقوه وكتبوا عنه كان عرضة للتحولات، إذ لا شيء يبقى على حاله في بيروت المدينة المفتوحة على كل الاحتمالات والتحولات والتوحش العمراني. لنتأمل في منازل الأدباء التقليديين أو الأدباء الذين ارتبطوا بالذاكرة المدرسية أو الذاكرة اللبنانية، من جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود والياس أبو شبكة وتوفيق يوسف عواد...

 منزل الشاعر الياس أبو شبكة الذي حولته بلدية زوق مكايل (شرق بيروت) متحفاً، كان مهدداً بالتدمير اذ تمّ بيعه لتشييد بناء مكانه في السبعينيات، فسارع  رئيس البلدية نهاد نوفل إلى توقيف عمل الجرافة وباشر في تحويله متحفاً بعدما استملكته البلدية. بدأت الحرب الأهلية في لبنان فسكن فيه مهجرون وتحوّل البيت محلاً لبيع الأحذية، لم تسترجع البلدية البيت إلا أواخر الثمانينيات، بعدما تعرّض لعملية تشويه لبعض معالمه، وخصوصاً أبيات شعرية كان الشاعر كتبها على جدرانه إلى جانب بعض الرسوم.

   يحتوي متحف الياس أبو شبكة الكثير من مقتنياته، في المدخل صورة كبيرة للشاعر، وبين جدرانه وثائق وأبيات شعرية له، صوره مع أبيات شعرية بخط يده، قلمه، نظاراته، محفظة نقود، صور فوتوغرافيةً نادرة ترقى إلى والدَي الشاعر، شقيقته ماري وزوجها في نيويورك، وشقيقته فرجيني، وحبيبتية «غلواء» و«ليلى» ومؤلفاتِ أبو شبكة في طبعاتِها الأُولى...  

وحظي منزل أبو شبكة باهتمام بعض الأدباء اللبنانيين، وصف الأديب مارون عبود حارة أبو شبكة في كتابه «جدد وقدماء» قائلاً: «بيت مستور. تدخل ذلك البيت، وهو ما زال كما تركه المورّث، فتراه حارة تدلّ على يُسر صاحبها، فحيطانها مدهونة وأرضها مفروشة بالبلاط الرخامي، وغرفها واسعة وعالية والدار فسيحة، وهذا هو طراز البناء البرجوازي اللبناني. كأنما أعد ذاك البيت الرفيع العماد ليأوي إليه شاعراً ثائراً شقياً يائساً تأبى عليه أنفته أن يظهر أمامك في مباذله، فاستطاب شقاءه والشقاء هو الحياة بل لا لذة للحياة إذا لم يكن الشقاء».

يروي الأديب ميخائيل نعيمة عن ليلة قضاها في منزل أبي شبكة بعد إلحاح الأخير، يقول: «ونمنا ليلتنا الأولى في غرفة واحدة، ولكم سرّني عند النوم أن أشاهد مضيفي يستوي في سريره ويصلّي بحرارة المؤمن…». ويضيف نعيمه: «في صباح الأحد التالي أخبرني الياس عن قصيدته «غلواء» (غلواء حبيبة الشاعر) وقد أوشك أن يفرغ من نظمها، فطلبت أن أسمعها، واشترطت أن يكون ذلك لا في داخل جدران أربعة، بل في الهواء الطلق بعيداً عن الناس وبين الأعشاب والأزهار. وهكذا كان، فخرجنا إلى جهة من الزوق اكتست تربتها حلة فاتنة من بكور الزهر والعشب، وهناك جلسنا ومن فوقنا سماء صافية زرقاء، ومن حولنا نسيم زهر ناعس، وأمامنا بحر شاسع، وراح يقرأ ورحت أصغي».

تحوّل منزل الياس أبو شبكة متحفاً، ولكن لسخرية القدر لا أحد من الجيل الجديد من الشبان يعرف مؤلفات هذا الشاعر الكبير، هل يفكر أحدهم في طباعة مؤلفاته الشعرية؟ والمثير للسخرية أنه، خلال افتتاح متحف أبو شبكة، طبع كتاب وحيد له وهو {العرب والفرنجة}، ولم يترافق هذا الاحتفال بمتحفه مع إصدار جديد لأعماله، واحتفاء بنتاجه الكبير والأساسي والبالغ الأهمية في الشعر اللبناني والعربي والنهضة الأدبية العربية والفكرية.

مارون عبود

ما يقال عن منزل أبو شبكة الشاعر يمكن أن يقال عن مارون عبود القاص، فحين نذكر هذا الأخير نتذكر بلدته عين كفاع في بلاد جبيل، بل نتذكر كنيته في أنه سمّى ابنه البكر محمد فصار «أبو محمد»، كأنه بذلك اخترق «تابو» الطوائف اللبنانية التي نعرف كل واحدة منها من أسماء أبنائها، إذ إن الاسماء تدل على الانتماء والولاء. مع مارون عبود «الماروني» يبدو للولاء معنى آخر، فيه شيء من المثالية في بلد يضج بالأحلام والكوابيس.

 يقع متحف مارون عود في وسط عين كفاع، يحتوي نتاجه الأدبي من خلال غُلف جميع مؤلفاته الكاملة بالإضافة إلى المجلات والصحف التي حرر فيها، ومقالات وأحاديث مخطوطة ومقالات نشرت في جرائد: «الروضة» (1906-1907)، «النصير» (1907)، «الحكمة»، «الوطن» بين 1909 و1914 وعددها 1327، رسائل مرسلة إليه وعددها 2150، ورسائل أرسلها هو، مخطوطاتها باقية وعددها 630، إلى جانب قصاصات ورؤوس أقلام وعددها 4530.

البراءات والشهادات والأوسمة التي حاز عليها مارون عبود أُفرد لها مكاناً خاصاً في البيت المتحف. في خانة الصور الفوتوغرافية، نرى وجوهاً وأسماء كثيرة، بعضها عايشها مارون عبود وتعرّف إلى البعض الآخر من خلال الكتب، وتعود الصور إلى شخصيات  أدّت أدواراً مهمة سياسياً أو فنياً أو روحياً.

في المتحف أيضاً، قائمة أغراضه الخاصة، غليونه، خاتمه، ساعة جيبه، وساعة المكتب، أواني القهوة الخاصة به، أكوابه، كسارة لوز، مصباح علاء الدين، آلة طبع قديمة، أدوات طعام خاصة به. الصالة المجاورة للقاعة الرئيسية تابعة لدار مارون عبود للنشر، وفيها لوحات زيتية لأدباء تعاملوا مع هذه الدار فنشرت لهم مؤلفاتهم أمثال: خليل مطران، أديب اسحق، بطرس البستاني، كرم البستاني، فرح أنطون، ابراهيم ووردة وناصيف اليازجي.

يقول رياض عبود (حفيد مارون عبود) إن فكرة إنشاء متحف لمارون عبود بدأت مع أولاده نظير ونديم ومحمد في أوائل السبعينيات بمجهود فردي، ومع بداية الأحداث في لبنان، توقف العمل في المتحف. وفي فترة لاحقة، استأنف حافظو إرث مارون عبود العمل وأضافوا بناءً جديداً على البيت الذي تركه قبل أن يتوفاه الله في حزيران 1962. وفي المتحف لوحة زيتية تدل على ذلك.

قل كلمتك وامش

منزل الأديب والرحالة أمين الريحاني في {الفريكه} الذي حُوِّل جزء منه إلى متحف تحت رعاية عائلته، خصوصا ابن شقيقه أمين ألبرت الريحاني، ويتضمن قاعة للوفود وللحلقات الدراسية والندوات الأدبية والفنية والثقافية التي تعقد بصورة منتظمة ودورية. وقد افردت، منذ العام 1997، صفحة خاصة مفصلة ومصورة للمتحف على موقع الريحاني الدولي، ويضم مؤلفاته باللغتين العربية والإنكليزية ومخطوطات نادرة وصوراً له مع ملوك عرب، وعنوانه  www.ameenrihani.org  

يتضمن المتحف  لوحات بورتريه للريحاني بريشة فنانين عرب وأجانب رسموه في مراحل مختلفة، ومنهم: يوسف غصوب، يوسف الحويك، حليم جرداق، جبران خليل جبران، ناظم إيراني، رضوان الشهال، مصطفى فروخ، بيار صادق. بالإضافة إلى رسوم بريشة الريحاني، وكلمات قالها الريحاني ودونت في المتحف مثل «قل كلمتك وامش».

سقف بيتي حديد

 

في أيام الدراسة حفظنا قصيدة {الطمأنينة} (سقف بيتي حديد/  ركن بيتي حجر) لميخائيل نعيمة، كنا نتساءل: هل يكون بيت هذا الأديب مثل قصيدته؟ كذلك علقت في ذاكرتنا علاقته بالشخروب والسنديانة وبلدته بسكنتا، هو الذي لقب بـ {ناسك الشخروب}، هكذا كان للأديب أن يصنع صورة بلدته في أذهان محبيه، ربما تكون بسكنتا في الواقع أجمل من الكلام المكتوب لكن فضل الكاتب أنه يسلط الضوء على روحها.

قارئ نعيمة وزائر بسكتنا يلاحظ أن الأديب والبلدة من نسيج بعضهما، فنعيمة كتب الكثير من نصوصه عنها تحت سنديانة منزله المطلّ، واستلهم من جبالها ووديانها وطبيعتها الوعرة. في العـام 1999، أُقيم نصب قرب منـزل الأديب حيث الغرفة الصخرية التي كان يكتـب فـيها، وأقيــم له تمثـال يمثل وجهه.

جبران

من بين متاحف الأدباء يبدو متحف جبران خليل جبران في بلدته بشري الأكثر {نجومية} إذا جاز التعبير، وأكثر من حظي باهتمام في الوسط الثقافي، وتحول محطة سياحية بامتياز، وله لجنته الثقافية الذي تدير شؤونه ومناسباته. ومتحف جبران ليس منزله في الأساس، هو مسكن أقرب الى الدير اشترته عائلته وتحول متحفاً يضم لوحاته ومقتنياته  من أثاث بيته في بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية.   

 هذا غيض من فيض عن أحوال بعض أشهر منازل الأدباء والمبدعين في لبنان، والتي تحول بعضها إلى متاحف بينما ذهب مع الريح البعض الآخر.