أذكر في مكتبة قديمة في بغداد، في زمن بعيد استوقفني الاسم. تناولت النسخة بغلافها المغبر وقرأت: الاسم توفيق صايغ. العنوان: ثلاثون قصيدة. بعد قراءته، أحسست حينها، أن ما كان يكتبه توفيق صايغ غريباً. أو بالأحرى بدا لي غريباً حينذاك، فهو يختلف عما كان يكتبه سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد، بل كان يختلف عما يكتب من شعر في العربية. كانت هذه المجموعة التي صدرت عام 1954، استباقة مؤثرة، من حيث الموضوعات وطريقة القول الشعري. بدت لي كتابة ذات منحى شخصيّ أكثر من اللازم، لكن بمرور السنوات وتوالي القراءات ومعرفتي بحياته وعالمه الشعري، أدركت مدى انحياز القصيدة لديه، إلى عذاباته، وهواجسه الجمالية، بل إلى عالم التشرد والمنافي، ومناخات الوحدة والوحشة.
في أوائل ستينيات القرن الماضي أصدر توفيق صايغ في بيروت مجلة حوار، هذه المجلة التي استقطبت حينها أغلب الكتاب والشعراء العرب الطليعيين، إلا أن المجلة لم تستمر طويلاً، فبعد الجدل العاصف، والاتهامات، التي وجهت للمجلة وصاحبها، على ضوء ارتباطها بمنظمة حرية الثقافة العالمية الممولة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، (وكانت المنظمة تمول مجموعة من المجلات الثقافية بما فيها مجلة إنكاونتر الشهيرة)، أوقف توفيق المجلة بحزم، بعد معرفته بحقيقة الأمر، غير أن الهجوم على توفيق صايغ لم يتوقف فغادر بيروت متألماً، عائداً إلى عوالمه التي عاش فيها.في عام 1963 قدم توفيق صايغ باقة من المختارات الشعرية الأميركية في كتابه (50 قصيدة من الشعر الأميركي) وكان هذا الكتاب حينها مدخلاً مهماً في معرفة اتجاهات الشعر الأميركي المعاصر، اختار توفيق الشعراء بعناية فائقة، وقدم ترجمة خلاقة لشعراء من روبرت فروس إلى هولاندر إلى وليمز كارلوس وليمز إلى شعراء الجيل الأميركي الأخير.بالإضافة إلى هذا الكتاب، ترجم توفيق صايغ رباعيات أليوت مع اضاءات كافية لقراءة النص. لكن ما الذي يتبقى من توفيق صايغ؟ لقد رحل الشاعر تاركاً لنا شعره الجميل وجرأة المغامرة والاكتشاف، ترك لنا درساً في التواضع.صحيح أن توفيق صايغ على جرأته المبكرة في الاشتغال الشعري المختلف، لم يشكل تياراً يمكن معاينته داخل الحركة الشعرية العربية، إلا أن اجتراحاته الشعرية دفعت، ولو على نحو غير واع، الحداثة الشعرية العربية، إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتجديداً.
توابل - ثقافات
جوهر مقطر من ماء الروح - 2
26-12-2012