مسرح البولشوي الروسي
في السنتين الأخيرتين من دراستي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة (1966- 1971) أتيح لي فرصة ذهبية بأن أكون مساعداً لأستاذ فن الديكور المسرحي، مصطفى صالح، الذي اختارني وبعض زملائي لمساعدته في تنفيذ ديكورات أحد عروض الباليه، وذلك في مبنى الأوبرا المصرية في ميدان الأوبرا التي احترقت عن بكرة أبيها في فترة حكم السادات، ولعلني أذكر أنها كانت من الفخامة ما لم تره عيني من قبلها داراً للعرض من حيث النظافة والأثاث، وما في الدور العلوي من تحف وتصاميم مجسمة لكل أوبريت تم عرضه في تلك الدار، ومن ضمنها تصميمات أول أوبرا تم تحضيرها لافتتاح مبنى دار الأوبرا، وهي "أوبرا عايدة" التي تم اكتشاف مخطوطاتها من قبل عالم الآثار الفرنسي، أوغست ماريتا، في وادي النيل. والمخطوطة عبارة عن قصة من 4 صفحات، ألف قصتها ميريت باشا عالم المصريات الفرنسي الشهير، وكتب نصها الغنائي الليبرتو جيسلا نزوني، وبعد ترجمتها سلمت إلى الموسيقار الإيطالي فيردي في عام 1870 من أجل تأليف "أوبرا عايدة" بطلب من الخديوي إسماعيل، فوضع فيردي الموسيقى لها مقابل 150 ألف فرنك من الذهب، وقد تم تصميم ديكور وملابس العمل في باريس وكلفت 250 ألف فرنك، وقد أمر الخديوي إسماعيل ببناء دار الأوبرا لتكون جاهزة خلال ستة أشهر في عام 1869، للاحتفال بافتتاح قناة السويس.(1)
أيام الدراسة في القاهرة (1966- 1971) من أجمل فترات العمر لما فيها من جمال وسحر ومعرفة واكتشاف، والذين عاشوا هذه الفترة أجزم أنهم ما فقدوا الإحساس الجميل بها رغم ما حدث من "نكسة" غيرت الكثير من المعالم والقناعات.كنت من المحظوظين جداً، ذلك أنني تتلمذت على يد كبار رواد الفن التشكيلي في مصر بتنوع أساليبهم الفنية، وأنا في بداية الطريق لا أكاد أميز بينها، وأصبحت صديقاً ومقرباً من العديد من هؤلاء الرموز ورواده الذين مازال التاريخ يُعلي من شأنهم ودورهم في خلق حركة تشكيلية مصرية عربية عظيمة.عملت عامين مع أستاذي وكان برفقته فنان منتدب من مسرح "البولشوي" في الاتحاد السوفياتي لتصميم بعض الديكورات وتعليم فن الديكور المسرحي الأوبرالي في مصر، والذي تعلمت منه الكثير، ولأول مرة يقع على سمعي اسم مسرح "البولشوي" وما يقدمه من عروض فنية هي الأرقى في العالم لفن الباليه.فزت بشهادة خاصة من هذا الفنان الروسي كتبها لي على ورقة باللغة الروسية، وقد ترجمها لي أستاذي الذي يتقن اللغة، جاء فيها: "إنني مؤهل للعمل في المسارح ولتصميم ما يلزم من ديكورات وتقنيتها"... فرحت بهذه الشهادة التي مازلت أحتفظ بها منذ عام 1971 بين أوراقي الخاصة.بعد التخرج، أتيحت لي فرصة بأن قمت بتصميم ديكور مسرحية أثناء عملي في أحد بلاد المغرب العربي "ليبيا 1973" أثار الانتباه لما وضعته فيها من جديد ومن خبرتي القليلة حين كنت مساعداً لمدة عامين في دار الأوبرا المصرية، ولم أكمل السير في هذا الطريق لاهتمامي باللوحة الفنية.وفي عام 1975 أتيحت لي فرصة لزيارة الاتحاد السوفياتي لمدة أسبوعين، كان من أهم ما تضمنه برنامج الزيارة هو مشاهدة عرض أوبرا "بحيرة البجع" للموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي، وكانت سعادتي لا تقدر، إذ إنني أشاهد الباليه الأصلية وفي المكان ذاته الذي عُرضت فيه للمرة الأولى في عام 1877، أي بعد نحو 100 عام على ظهورها، والتي لم يؤثر الزمن في قيمتها وجمالها وأهميتها.ومسرح البولشوي (Большой Театр : باللغة الروسية يعني المسرح الكبير) هو أروع مسرح ورمز تاريخي من رموز الثقافة والفن بمدينة موسكو الروسية، ووهو ليس بعيدا عن الكرملين وتقدم عليه العروض المسرحية والأوبرا والرقص. وقد تم تأسيس فرقة البولشوي عام 1776 من بيتر أوروسوف (Peter Ouroussov) وميخائيل مدوكس (Mikhail Medoks). وكانت العروض في البداية تقدم في أماكن خاصة.وفي عام 1780 تحصلت الفرقة على مسرح بتروفسكي الذي أتى عليه حريق عام 1805، فأقيم في مكانه المسرح الحالي وهو من تخطيط المهندس المعماري جوزيف بوفي (Joseph Beauvais) الذي صمم وبنى قبل ذلك المسرح الصغير المسمى بالروسية مسرح مالي (Maly).وتم تدشين مسرح البولشوي في 18 يناير 1825، الذي اقتصر في البداية على العروض الروسية، ثم تم تطعيمه بعروض أجنبية.وقد أغلق في عام 2005 للقيام بعملية صيانة وترميم، وأعيد افتتاحه للجمهور في أكتوبر 2011، حيث بلغت كلفة عملية التجديد الشاملة من الداخل والخارج نحو 700 مليون دولار أميركي.ما يجعلنا نتذكر مثل هذه المسارح هو ندرة ما يقدمه المسرح العربي من مسرحيات جادة، وافتقاره للقدرة على خلق فرقة للباليه على المستوى العالمي إلا باجتهاد ضعيف في بلد أو بلدين عربيين ليس لهما شهرة محلية بقدر ما تقدمه المسارح العادية من مسرحيات قل فيها الجاد، وأصبحت "تهريج" يلبس قفطان "الجدية" في محاولة للعبور إلى عقل المتلقي.صحيح أن الوضع غير الطبيعي الذي تعانيه الأمة العربية منذ سنوات زادت على الخمسين عاماً له تأثير في "مزاجية" المتلقي الذي يبحث عن أي تسلية تخرجه من دوامة الأفكار السوداوية والضغط اليومي من متطلبات الحياة المزعجة، التي باتت أكبر من طاقته؛ لتجعله يرتاد مسارح أبعد ما يكون فيما تقدمه عن رسالة المسرح السامية "أبو الفنون".هناك حاجة دائمة لفن مسرحي رفيع في كل أشكال المسرح، ولا يمكن أن يختصر الأمر في فرق الرقص الفلكلورية بديلاً عن فن الباليه ذي المواصفات الرفيعة جداً، والذي يتطلب جهداً غير عادي... وإرادة.(1)- عن «ويكيبيديا»* كاتب فلسطيني- كندا