في 15 أكتوبر الماضي، كتبنا مقالاً في هذه الزاوية بعنوان «يهود مصر» يثأرون من «عبد الناصر»، أشرنا فيه إلى كم المغالطات الصارخة، والوقائع المغلوطة، التي دسها المخرج الشاب أمير رمسيس في فيلمه التسجيلي الذي اختار له عنوان «عن يهود مصر»، وأوحى من خلاله بأن يهود مصر حفنة ضحايا اضطهدهم وطردهم عبد الناصر، ولم يكن في وسعهم سوى «الخروج»، لكن الحنين ما زال يشدهم إلى العودة إلى مصر فور سقوط القوانين «الظالمة»، التي أصدرها عبد الناصر ونظامه، ونزعت عنهم الجنسية وحق الإقامة!

Ad

يومها استغربنا توجه الفيلم ورؤيته وتوقيت طرحه، ورهان المخرج على إقناع المصريين بأن الفارق كبير وشاسع بين «اليهودية» و{الصهيونية»، وأن من يتحدث عنهم هم «أبناء مصر». لكننا رأينا أن من حقه طرح وجهة النظر التي يريد بشرط ألا يتجاوز في حق الآخرين ويسيء إلى سمعتهم، مثلما فعل عندما أطلق العنان لضيوفه للحديث عن التضييق والخناق الذي مورس عليهم، وبلغ ذروته بواسطة «الضباط الأحرار» (عبد الناصر ورفاقه) عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وشططه في اتهام عبد الناصر بالخيانة، بعد تبنيه واقعة ملفقة كذبتها مصادر وثيقة الصلة بنظامه، حول قيام هنري كورييل، صاحب الدور المؤثر في الحركة الشيوعية في مصر، بإيفاد مندوب إلى «صديقه» د.ثروت عُكاشة لإعلامه بأن ثمة خطة للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأن عكاشة سلم الخطة كاملة إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لكنه تجاهلها، ولم يفطن إلى خطورة وجدية التحذير (!)

لم تكن الواقعة الملفقة هي الثغرة الوحيدة في الفيلم «الغامض»، الذي لم يُعرف أحد حتى هذه اللحظة حقيقة الجهة التي تقف وراء تمويله، فالمخرج الشاب انتقى حفنة من اليهود الذين استقروا في فرنسا ليستمع إلى شهاداتهم، ويروج لها، وتعمد ألا يلتقي «الشرذمة»، التي غادرت مصر لدعم «الوطن الأم»، والإسهام في خروج حلم «أرض الميعاد» إلى الوجود، وركز على «الطاغية»، عبد الناصر، الذي زج، وبطانته، باليهود «الأبرياء» في السجون، ولما رفضوا مغادرة مصر لجأ إلى إصدار القرارات التي تقضي بسحب الجنسية منهم، وإلغاء حق الإقامة لهم، وتجاهل المخرج، ومن ورائه، فضيحة «لافون» الشهيرة التي لجأ اليهود خلالها إلى حرق المنشآت الأميركية والبريطانية في مصر للإيقاع بين «الثورة» و{القوى الخارجية»!

في السياق نفسه، أوحى «رمسيس» بأن النكسة الحضارية التي أصابت مصر هي نتيجة طبيعية لإقصاء اليهود المبدعين، وراح يُعاير المصريين بأنهم عرفوا الفن والثقافة والإبداع، على أيدي اليهود الذين شكلوا وجداننا، وصال وجال بالكاميرا ليقدم الدليل على أن كل ما في مصر «يهودي»، سواء البنايات الشاهقة التي كان لهم فضل تشييدها أو المتاجر الفارهة التي أسسوها، واختتم الفيلم بالدعوة إلى رد الحقوق التي استولت عليها الثورة، و{الضباط الأحرار»، إلى أصحابها «اليهود»، بعد إقرار «حق العودة»!

عُرض فيلم «عن يهود مصر» في بانوراما الفيلم الأوروبي (أكتوبر 2012)، وشارك، كما تقول وثائق الرقابة، في مهرجان بالم سبرينجز في ولاية كاليفورنيا الأميركية (ديسمبر 2012)، لكن يبدو أن الجمهور المصري هو المستهدف من رسالة الفيلم، ومن ثم جرى اتفاق بين مخرجه أمير رمسيس ومنتجه هيثم الخميسي من جانب والمنتجة إسعاد يونس من جانب آخر على ضرورة عرضه في الصالات التجارية، التي لا ترحب مُطلقاً بهذه النوعية من الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة. لكن إسعاد تخطت، لسبب ما، الأعراف والتقاليد وتجاوزت الصعاب وتحدت الجميع، وفتحت أبواب ثلاث صالات تُديرها في القاهرة والإسكندرية للترحيب بالفيلم «مشبوه التوجه» قبل أن تتدخل جهة أمنية سيادية، قبل يوم من العرض التجاري في 13 مارس الجاري وتحظر عرض الفيلم، الذي تحيط فكرته وإنتاجه وإصراره على التواجد في الصالات التجارية الكثير من علامات الاستفهام والريبة!

بالطبع هدد منتجه باتخاذ الإجراءات القانونية ضد وزارتي الثقافة والداخلية وجهازي الأمن الوطني والرقابة، وسعى، كما جرت العادة في مثل هذه الأحوال، إلى حشد المثقفين والمبدعين والمفكرين ومنظمات المجتمع المدني، للتعاطف مع «يهود مصر»، وتحريض المجتمع المصري على الدفاع عن حقهم في «الوجود» في صالات العرض المصرية، وزعم، في بيان أصدره وتداولته مواقع التواصل الاجتماعي، أن ما يحدث له وللفيلم بمثابة إرهاب للفكر وقمع للإبداع، بينما يُدرك كل من يُشاهد الفيلم، ويقرأ ما بين سطوره، ومشاهده، أنه لا يعدو كونه نوعاً من «الدجل العاطفي والشعوذة السياسية»!