تفجيرات بوسطن التي أودت بحياة 3 أشخاص أحدهم طفل في الثامنة، وأسقطت 180 جريحاً بعضهم بترت أطرافه، ما زالت دوافعها الحقيقية غامضة ومحيرة، وما زال المحققون الأميركيون في حيرة منها، شابان يافعان قدما من داغستان مع أسرتيهما قبل 10 سنوات إلى البلاد لاجئين، تعلم فيها واندمجا في الحياة الأميركية، لم يعانيا من ضائقة اقتصادية أو ضغط نفسي أو ممارسة تمييزية ضدهما، ما الذي يجعلهما يفجران أناساً أبرياء؟! وما الدوافع وراء هذا السلوك العدواني؟! وما أهدافهما؟! وما الرسالة التي يريد الشقيقان الشيشانيان توصيلها؟! ولماذا بوسطن بالذات وهي مدينة معروفة بالتسامح والليبرالية وتعايش الجنسيات، مدينة جامعة هارفارد وأخواتها من الجامعات المرموقة ومراكز البحث الأعلى في أميركا؟!
الدوافع حتى الآن غامضة تكاد تستعصي على كافة تحليلات الخبراء للدوافع التقليدية للعمل الإرهابي، إذ لا يوجد في سيرة الشابين ما يشير إلى تطرفهما الديني أو حتى التزامهما بأداء الصلاة والحرص على المظاهر الدينية غير تصريح يتيم لإمام مسجد مدينة كامبردج الذي كان الشقيقان يعيشان بالقرب منه، بأن تيمور لنك، الأخ الأكبر، كان يأتي لصلاة الجمعة بشكل غير منتظم منذ عام ونادراً ما كان يأتي جوهر، الأخ الأصغر، بصحبته. لا يوجد في حياة الشابين ما يفيد تطرفهما الديني أو ارتباطهما بتنظيمات متطرفة لا في الداخل ولا الخارج، كما لا يوجد في سجلاتهما النفسية والاجتماعية ما يفيد تعرضهما لضغوط نفسية أو اجتماعية، بل العكس تماماً كما يقول عبدالرحمن الراشد، كان محل ترحيب من أول يوم، العائلة حصلت على الإقامة الدائمة والأب عمل ميكانيكياً في ولاية ماساشوستس لعدة سنوات، وعلى إثر مرضه عاد مع زوجته إلى داغستان وتركا ولديهما يكملان دراستهما. جوهر (19 سنة) تخرج من ثانوية كمبردج 2011 ويتكلم الإنكليزية والشيشانية والروسية، ونظراً لتفوقه فاز بمنحة لدراسة الطب، ومن هواياته التزلج والمصارعة وموسيقى الراب، أما تيمور( 26 سنة) فقد درس الهندسة وتحول إلى الملاكمة وشارك في منافسات الوزن الثقيل، وكان يطمح في الحصول على الجنسية والانضمام لفريق الملاكمة الأولى لتمثيل أميركا في الخارج، وتزوج أميركية أسلمت وأنجبت له طفلة، والجيران والأصدقاء كانوا جميعاً يتحدثون بإيجابية عنهما ويرونهما كبقية الشبان الأميركيين من ارتدائهما قبعات البيسبول ومشيتهما المتسكعة، بمعنى أنهما كانا منخرطين في الحياة الأميركية ولم يذكر أحد شيئاً عن تطرفهما بل وصفوا (جوهر) بأنه شاب لطيف يحب الأطفال وقال والده بأنه (ملاك) حقيقي. إذاً: شابان بهذه المواصفات الرائعة: لماذا يتطرفان فجأة؟! ولماذا يعمدان إلى تفجير أبرياء؟! ولماذا يختاران مدينة بوسطن التي أوتهما وعلمتهما وأهلها أحسنوا إليهما؟! هذه التساؤلات ما زالت بدون إجابات مقنعة وتتحدى كافة التحليلات في دوافع الإرهاب، الأخ الأكبر قتل خلال المطاردة ودفن دافعه معه والأصغر مصاب وعاجز عن الكلام، ويبدو أن عجزه سيستمر طويلاً، وقد أفاد مؤخراً المحققين خطياً بأنه لا ارتباط لهما بأي جهة خارجية لا تمويلاً ولا تنظيماً. أما: لماذا قاما بهذا العمل الإجرامي؟! فقد نقلت المصادر عن المحققين روايات متضاربة، صحيفة نيويورك تايمز قالت: بسبب (رؤية متطرفة للإسلام) وشبكت "إيه بي سي" ذكرت أن الدافع هو (رد الهجمات عن الإسلام) أما صحيفة بوسطن غلوب فقالت: بسبب (غضبهما من التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق)، وهي في تصوري، روايات متناقضة، لا تعتمد على منطق سليم، ومتلونة سياسياً وأيديولوجياً بحسب أصحابها، فمن أراده توظيفاً أيديولوجياً، ربط الحدث بالتطرف الإسلامي، ومن أراده توظيفاً سياسياً، علله بالسياسة الخارجية الأميركية. لا يمكن التسليم بهذه الروايات حتى إن كانا مصدرها (جوهر) لأنه من الطبيعي أن يتظاهر الآن بأن هدفه نبيل، وأنه أراد الدفاع عن الإسلام والمسلمين كتبرير للعمل الإجرامي، وذلك لعدة اعتبارات: 1- ما علاقة الدفاع عن الإسلام بقتل أبرياء؟ الإسلام عظم النفس الإنسانية واعتبر قتل نفس بريئة قتلاً للناس جميعاً وتوعد القاتل في الخلود بالنار، كيف يكون الدفاع عن الإسلام بالعمل الإرهابي؟! هكذا تساءلت الكاتبة القطرية (ريم يوسف الحرمي) وهي محقة عندما قالت: إن جملة (الدفاع عن الإسلام) مبهمة ولا تدل على أي شيء منطقي، إن من يريد الدفاع عن الإسلام يجب أن يلتزم بمبادئه أولاً، ويسلك الطرق المشروعة ثانياً، والشقيقان لم يكونا ملتزمين ولم يسلكا سلوكاً مشروعاً، الغاية الشريفة لا تنفصل عن وسيلتها الشريفة ولا يقبل الادعاء بأن الهدف نبيل إذا كانت الوسيلة محرمة. 2- أما التعلل بأن الدافع هو (غضب الأخوين من التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق) فهو تعليل سقيم، لأن أميركا خرجت من العراق وهي على أبواب الخروج من أفغانستان، فهل ينتقم الأخوان من أميركا بأثر رجعي؟! لو كان هذا الحدث في عهد بوش لأمكن هضمه، ولو كانا غاضبين حقاً من التدخل الأميركي ويريدان الانتقام، لصرحا به ولتركا رسالة على صفحتيهما ولتحدثا به مع الأصدقاء والجيران، ولعلمت به الاستخبارات الأميركية. هناك كثيرون غاضبون من السياسة الخارجية الأميركية في داخل أميركا وخارجها لكنهم لا يفجرون الأبرياء، ولو صح ذلك دافعاً، لكان الفلسطينيون أولى به، فهم أكثر المتضررين من الانحياز الأميركي ضدهم، لذلك كان الأمين العام للأمم المتحدة محقاً في رفضه تصريح ريشارد فولك- محقق المنظمة الدولية الخاص بحقوق الإنسان في فلسطين- حين لمح إلى أن (هجوم بوسطن) رد على السياسة الخارجية الأميركية، فولك يريد توظيف الحدث لمصلحتة السياسية وهو مخطئ في ذلك.3- لماذا ينتقم الأخوان من مدينة بوسطن، وأهلها أشد المعارضين للتدخل الأميركي في العراق وأفغانستان؟ أليس الأولى لو كانا صادقين في ادعائهما، لكان الأولى أن ينتقما من روسيا المحتلة لوطنهما الشيشان، لا أميركا التي أوتهما وأكرمتهما، فهل جزاء الإحسان الإساءة؟ وإذا لم يكن الدافع تطرفاً دينياً ولا دافعاً انتقامياً، فما هو إذاً؟!هناك اليوم بدعة جديدة يروجها بعض الكتاب والمحللين تحت اسم "أزمة الهوية"، وهي وضع نفسي متأزم يجد المسلم المغترب نفسه تتأرجح بين عالمين متعارضين: عالم الإسلام وقيمه وواجباته، وعالم الحضارة الغربية وقيمها ومتطلباتها، مما يجعل المسلم فريسة لشبكات التطرف بحثاً عن هوية مطمئنة. لا أشارك هؤلاء المحللين بدعتهم الجديدة وقولهم أن أغلبية الشباب المسلم في الغرب يعانونها، وأراها إحياء لمقولة قديمة زائفة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) لا تناسب عصراً تقاربت فيه الشعوب والثقافات، في تصوري أن المسلم يستطيع أن يتمسك بصحيح دينه ويؤدي واجباته أينما حل أو ارتحل في بلاد الله الواسعة بدون أي أزمة هوية، وإلا كيف عاشت الجاليات الإسلامية في الغرب أجيالاً متوالية؟! إذا ما الدافع؟أجد في النهاية أني متفق مع الكاتب والمفكر المصري عبدالمنعم سعيد في مقالته الرائعة (رسالة إلى بوسطن) يحلل ما حصل هناك بالاتكاء على كتاب "عصر التطرف" لإريك هوسبون الصادر 1994 من أن الأيديولوجيات تولد متطرفين يقتلون بلا سبب ويتركون بلا سبب أحياء بلا أطراف، بدون أن تكون هناك قضية شخصية من أي نوع! ليقول بأن هناك دائماً، متطرفين لا يمانعون في قتل المئات أثناء حدث رياضي (وبلا سبب على الإطلاق). ختاماً أرى أن ما حصل في بوسطن: إرهاب لا دافع له ولا رسالة ولا هدف، هو إرهاب لمجرد الإرهاب، لإثبات القدرة على تحدي التحصينات الأمنية، تماماً كما يفعل (الهاكرز) في اختراق المواقع الحصينة، فقط لإثبات قدرتهم على اختراق التحديات الأمنية والتباهي بها بين أقرانهم.* كاتب قطري
مقالات
بوسطن... إرهاب بلا رسالة ولا هدف!
29-04-2013