تزدهر في مصر الآن أنشطة راقصة ومغنية استعراضية شعبية اسمها "سما المصري"؛ والسبب أنها باتت متخصصة في إطلاق مقاطع مصورة (كليبات) هزلية تسخر من جماعة "الإخوان المسلمين" وقادتها سخرية حادة جداً ومثيرة للاهتمام.

Ad

لا توفر سما المصري أحداً، وتستخدم لغة مسيئة بامتياز، وتصطاد أخطاء الرئيس مرسي خصوصاً، وتكيل له ضربات ساخرة عنيفة، وتكسب شعبية باطراد.

لم أكن أعرف سبب ازدهار نشاط تلك الراقصة وشهرتها التي تصاعدت إلى درجة أنها باتت تقدم برنامجاً تلفزيونياً شهيراً مخصصاً لنقد "الإخوان" وحلفائهم من اليمين الديني المحافظ، وتسليط الأضواء على أخطائهم الفادحة، والسخرية منهم، لكنها على أي حال كانت قد اصطادت تصرفاً مثيراً للجدل وقع فيه حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لجماعة "الإخوان")، حين رعى حفلاً فنياً في مدينة سياحية مصرية، وهو الحفل الذي استضاف المطربة دوللي شاهين، التي غنت بالطبع بمظهرها وملابسها المعروف عنها "الانفتاح والتحرر الشديد"، في حضور قادة في الحزب و"الجماعة".

طورت سما المصري أغنيتها الجديدة إذن من وحي رعاية حزب الرئيس لاستضافة المغنية المنفتحة دوللي شاهين، بعدما ربطت هذه الاستضافة بشعار "إخواني" شهير، لطالما سمعناه يهز جنبات مساجد وجامعات مصرية على مدى أكثر من عقدين؛ الشعار يقول: "على القدس رايحين شهداء بالملايين".

ولذلك، فقد استهلت سما المصري أغنيتها الهزلية بمقطع يقول: "على القدس كلنا رايحين... بعد حفلة دوللي شاهين".

ما الذي دفع تلك الراقصة إلى "تلفيق ذلك الشعار على هذا النحو غير المتسق أبداً"؟

إنه سلوك جماعة "الإخوان" غير المتسق أبداً.

لقد تاجرت جماعة "الإخوان" على مدى عقود بقضية القدس، وقد شاهدت بنفسي قادة بارزين فيها يقودون التظاهرات، أو يتحدثون في التجمعات، أو يخاطبون الجمهور عبر برامج الفضائيات، بينما تنفر عروق رقابهم، مطالبين بـ"فتح باب الجهاد"، و"الضغط على الأنظمة العميلة لطرد سفراء إسرائيل"، وإشعال المعركة مع "العدو الصهيوني الغاصب لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين".

أول أمس الجمعة، كان الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في غزة يدعم فلسطين والقدس والمسجد الأقصى كعادته، ويحصل على درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الإسلامية ضمن فاعليات احتفال "نصرة الأقصى"، وقد قال الرجل كعادته كلاماً كثيراً؛ مثل الدعوة إلى "مناصرة الفلسطينيين والوقوف بجانبهم"، و"العمل على تحقيق المصالحة ووحدة الشعب الفلسطيني"، و"انتقاد الولايات المتحدة وإسرائيل"، ولم ينس بالطبع الغمز من قناة السلطة الفلسطينية وحركة "فتح".

لكن الشيخ القرضاوي نسي أنه في العقد الماضي أطلق الدعوة المهمة المشهورة التي طالب فيها بـ"زحف مليار مسلم إلى المسجد الأقصى لتحريره". لم يدع القرضاوي المسلمين إلى الزحف إلى فلسطين لتحريرها، رغم أن النظام الحاكم في مصر بات "إخوانياً"، وحكام غزة من "حماس"، مما يسهل الزحف بدرجة كبيرة (...).

القيادي "الإخواني" البارز محمد البلتاجي بدوره واصل ممارسة مهامه التقليدية في الحشد والتعبئة والهتاف وقيادة التظاهرات؛ لذلك فقد قاد تظاهرة في الجامع الأزهر في اليوم نفسه، وهي التظاهرة التي دعت إليها، وياللغرابة، جماعة "الإخوان".

احتشد المئات في الأزهر إذن للتظاهر ضد إسرائيل، وهتفوا خلف البلتاجي أيضاً: "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، في جمعة أسموها أيضاً "نصرة القدس".

حاصرت إسرائيل المسجد الأقصى، واعتقلت مفتي القدس، واعتدت على نساء فلسطينيات، ومنعت دخول شباب المصلين، واقتحم مستوطنون ساحات المسجد تحت حراسة الشرطة الإسرائيلية... فماذا فعلت جماعة "الإخوان"؟

أرسلت "الجماعة" البلتاجي ليتظاهر في الأزهر، رافعاً شعارات من نوع: "سنبقى كالجسد الواحد ضد العدوان الإسرائيلي"، و"لنتذكر دائماً عدونا الحقيقي"، و"على القدس رايحين شهداء بالملايين".

ما الذي تغير؟ ما الذي فعله "الإخوان" لم يفعله المصريون في عهد مبارك عندما كان يتم الاعتداء على الأقصى؟ لماذا لم تُفعل دعوة القرضاوي لمليار مسلم بالزحف؟ لماذا لم يُفتح باب الجهاد؟

البلتاجي يظهر الجدية والتأثر الشديدين... يهتف حتى يبح صوته... ويطالب مرسي بـ"اتخاذ الإجراءات الحازمة لردع (الكيان الصهيوني) ومواجهته".

ما الذي تغير؟ ماذا كان سيفعل البلتاجي لو كان مبارك ما زال في الحكم غير ما فعل؟ لماذا لا تصنع جماعة "الإخوان" وحزبها سياسة للرئيس يطبقها بدلاً من مطالبته بها في الميادين؟ هل تعرف "الجماعة" أن المسجد الأقصى في فلسطين، وليس في الأزهر؟ هل تعتقد "الجماعة" أننا بلهاء إلى هذا الحد؟

في منتصف شهر أبريل الماضي، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تصريحات نادرة ومهمة لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال بيني جانتس، يؤكد فيها أن التنسيق الأمني بين القاهرة وتل أبيب "تحسن كثيراً" منذ وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر.

ليس هذا فقط، لكن داني دانون، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، وصف العلاقات الأمنية المصرية- الإسرائيلية في الفترة الماضية بـ"الأفضل" بين الجانبين، أما عاموس جلعاد، المسؤول الرفيع بالوزارة نفسها، فقد نقلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" قوله: "إن التزام مصر باتفاق السلام معنا تحسن وصار أكثر كثافة".

ستكون المسألة أكثر وضوحاً إذا تذكرنا في هذا الصدد نص الخطاب الذي أرسله مرسي لنظيره الإسرائيلي شمعون بيريز، وهو الخطاب الذي وصفه فيه بـ"الصديق الوفي"، وتحدث فيه عن إسرائيل باعتبارها "دولة صديقة"، راجياً لها "التقدم".

وسيزداد الوضوح بالطبع حين نتذكر كيف أشاد الأميركيون والإسرائيليون في أرفع المستويات بما فعله مرسي أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث تدخل الرئيس المصري بشكل أدى إلى نهاية الأزمة والحفاظ على "أمن إسرائيل" حتى اللحظة الراهنة.

لذلك، لم تستوعب بعض جماعات "السلفية الجهادية" ما فعله "الإخوان" إزاء الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على المسجد الأقصى؛ لقد رفض قياديون في تلك الجماعات مجاراة "الإخوان" في "عرضهم الثوري"، وقال أحد قادتهم بوضوح: "لن نشارك... فالمليونيات حيلة العاجز... الجهاد لا يحتاج إلى مليونيات وتظاهرات".

الآن يمكن أن نفهم لماذا تزدهر أنشطة سما المصري ومن يشبهها، وسنفهم أيضاً لماذا ستزدهر أنشطة "السفلية الجهادية"، ومعهما بالطبع "أمن إسرائيل" و"الاعتداءات على الفلسطينيين"، و"(أخونة) الدولة المصرية"، و"خطب القرضاوي"، وضياع الأراضي والحقوق العربية. باب الجهاد مغلق... لكن باب الرقص مفتوح.

* كاتب مصري