ما مشروعك في السينما البديلة؟

Ad

بدأت حكايتي مع السينما حين وصلت إلى مدريد عام 2002 وكانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها صالة سينما في حياتي وأول فيلم شاهدته هو «الحلاق أو الرجل الذي لم يكن هناك» للأخوين كوهين. في غزة الفلسطينية حيث عشت، حرق المتدينون جميع صالات السينما بحجة أنها لا تناسب المقاومة، لذا يحرم مليون ونصف مليون لاجئ من متعة مشاهدة فيلم في صالة سينمائية. حين وصلت كمهاجرة إلى مدينة تولوز الفرنسية التحقت بالجامعة لتعلم اللغة ومن ثم انخرطت في دراسة الأدب والحضارة الفرنسيين لفهم والانخراط في المجتمع الجديد الذي أعيش فيه ومن بعدها سجلت في معهد العلوم السياسية في تولوز حيث قبلت وحزت درجة الماجستير بالجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية وذلك للانخراط في العالم السياسي ومحاولة التأُثير بما يخص قضيتي (الفلسطينية) ولكن حين دخولي إلى هذا العالم واكتشافي الألاعيب والكذب تحت غطاء الدبلوماسية، شعرت بالإحباط لأنني لم أستطع تغيير شيء ففكرت في تحويل مشروعي الدراسي إلى دراسة السينما والتصوير الفوتوغرافي على أمل بأن أستطيع تغيير الأمور من وجهة نظر سينمائية وفوتوغرافية. من هنا بدأت فكرة العمل في «السينما البديلة» غير الربحية، يتم فيها انتقاء الأفلام وفق معايير أخلاقية وثقافية وسياسية. قبل عرض الفيلم يتم استضافة مخرجين ونقاد من خلال ندوات سينمائية ثقافية تنظمها، وتكون الندوات غالباً سياسية وهدفها حث وعي الفرد وتوسيع إدراكه.

 هل تعتبرين أن أي شخص يمكن أن يكون سينمائياً من خلال الـ{يوتبوب»؟

في خضم الثورة التكنولوجية لم يعد الفن مقتصراً على فئة معينة. أؤمن بأهمية هذا التطور وإيجابياته، وأستطيع من خلال عيشي في دولة تعنى كثيراً بالثقافة بتخصيصها برامج متعلقة بالموضوع. مثلاً، تخص «قنال بلس» الفرنسية برنامج «عين على الروابط» يستطيع من خلاله أي فرد إرسال رابط لموقعه الشخصي أياً كان سواء تصويراً فوتوغرافياً أو سينمائياً أو صوتياً أو غرافيكيكاً. يتيح هذا الاهتمام لأي فرد إمكان التعبير عما يجول في خاطره بكل حرية وبلا أن يقتصر الفن أو السينما على أناس دون غيرهم، فبهذا تعطى الفرص للجميع.

هل تشعرين أن زمن الفوتوغراف تلاشى؟ فقد أصبحت في يد كل مواطن كاميرا. بمعنى آخر، لم يعد في استطاعة أحدهم التفرد والعبقرية.

لم ولن ينتهي الزمن الفوتوغرافي بمجرد أن تصبح أغلى الكاميرات وأكثرها في يد كل مواطن، بل أشعر وكما ذكرت لاحقاً بأن التصوير الفوتوغرافي يعبر عن الزمن الذي نعيش فيه، فهو متطور مع تطور الحاجة

والمجتمع، خصوصاً من الناحية الثقافية. يعكس الفن الفوتوغرافي اليوم المجتمع المستهلك، فترانا نلتقط ما يزيد عن ثلاثة آلاف صورة في مدة زمنية قصيرة، وهذا لا يمثل الفن الفوتوغرافي بل يطبع نظرة الفرد «المواطن» إلى هذا الفن، ويعود الإعجاب أو عدم الإعجاب إلى ذوق المتلقي الفني وتجاربه الشخصية، فيمكن أن أعجب بصورة مصور يراه الآخرون مزعجاً أو لا يعجبون بفنه. الأداة «الكاميرا» ليست سوى وسيلة للتعبير عن أفكار الملتقط ومشاعره. تزعجني السرعة العالية في اختراع وصنع كاميرات حديثة لا تعطينا الوقت لتشكيل شعور حميمي مع الكاميرا الدائمة. شخصياً، أتعلق بالأشياء ولا أحب هجرها لمجرد حصولي على أخرى جديدة وأكثر حداثة. الفن، خصوصاً الفوتوغرافي، بالنسبة إلي الهدف منه الصدق بالإحساس وإيصال الفكرة بكل بساطة، تلقائية، وحقيقة فجة من دون تزيين. ما لاحظته هو الرقابة المملة والقامعة لكل ما هو فني، وهنا أشعر بوجود ما أسميه عودة إلى الوراء، فالمجتمعات الحديثة اليوم تنظر إلى كل ما هو مثالي، ومقاييس الجمال مثلاً اختلفت كثيراً، فلا يجب أن نتحدث عن الشيخوخة أو الموت أو المرض أو الفقر بل يجب أن نعالج كل ما هو جميل ومثالي.

أي المواضيع يستهويك في التصوير الفوتوغرافي؟

بدأت رحلتي في التصوير عام 2005 من خلال هاتفي النقال، وشد انتباهي ما يسمى «فن الشارع». كنت حينها أعيش بين دبي وتولوز، وكنت كلما عدت إلى الأخيرة رغبت في ابتلاع المدينة والتقاط تفاصيلها الصغيرة لأعود بها كجنية صغيرة تحميني من كآبة المعيشة في مدينة استهلاكية كدبي. عشقت روح تولوز، حجارتها، مبانيها القديمة، شوارعها الضيقة، رائحة التاريخ وكأن أرواحاً تسكنها، وكنت ألتقط كل ما يشد انتباهي، ألتقط روح المدينة. أثناء عودتي إلى دبي، صرت أبحث عن إيجابيات تساعدني على تحمل المكان والعيش فيه، فرحت أصور وجوه المدينة فهي تشمل ما يقارب الأكثر من 100 جنسية مختلفة، فنشرت مشروع بورتريه لأناس من جنسيات ووجوه مختلفة. حكايتي مع التصوير الفوتوغرافي هي حكاية تفريغ أفكار تدور في رأسي، أفكار غير منظمة فتارة التقط حجارة المدن وأرصفتها الضيقة وطوراً التقط روح الأمكنة، وتارة أخرى ألتقط وجوه، وأحياناً  تلاحقني فكرة كعمل مشروع مثلاً عن غشاء البكارة، أو الثورات العربية، ولكن ذلك كله يسير بخط يلاصق أفكاري الإنسانية. هدفي من التصوير التعبير عما أشعر به سواء كان غضباً أو إعجاباً أو إدانة لما يجري من حولي من أحداث سياسية أو اجتماعية أو ثقافية. ما لا يعجبني هو بحث الفنان العربي الدائم عن نيل إعجاب المجتمع الغربي بشكل أو بآخر من خلال تقديم فن «كليشهات» وصور أو أعمال «استشراقية»، لذا أعود لأركز على نقطة الصدق مع النفس عند التقاط الصورة ومشاركتها وألا يكون الهدف منها التحريض وتشكيل مشاعر الحقد والكراهية والعنصرية. لا تزعجني أبداً صورة محرضة تهدف إلى صدم المتلقي وحثه على التفكير بطريقة أخرى غير التي تعود عليها وهذا ما أعشقه في التصوير الفوتوغرافي وهو ما يعرف بـ{الكونتروفيرس».

لماذا اختارت كاتبة فرنسية أن تكتب عنك؟

بدأت قصتي مع الكاتبة جابي اتشيبارن خلال عشاء في منزل أحد الأصدقاء في تولوز، وعندها لم أكن أعرفها أو أعرف أنها كاتبة، كان سؤالها لي عادياً جداً: كيف وصلت إلى تولوز؟ فأخبرتها مازحة أنها لن تجد الوقت الكامل لسماع التفاصيل... وأخبرتها القصة باختصار. وحينها قالت لي: لن أقبل بإجابتك هذه لأنها لا تعطيك حقك بل سأكتب عنها ومن حينها صارت بيننا لقاءات تسجيلية لمدة عامين، كتبت خلالها قصتي. تحكي القصة عن تجربتي منذ الطفولة لغاية وصولي إلى فرنسا، تتحدث عن المنفى والدوافع التي أجبرتني على ترك كل ما هو قريب على قلبي وطلب اللجوء. شد الكاتبة إلى قصتي تميزها وقوة الشخصية الداخلية والتشبث بالأمل لصنع حياة كريمة وجديدة في مجتمع مختلف تماماً عن مجتمعي، هذه التغيرات والتأثيرات كافة من دون نسيان أو إجهاض الجذور والماضي. عشت بين ثلاث مدن وثقافات مختلفة، ولدت في مخيم في غزة مع جدي البدوي اللاجئ من بئر السبع، وترعرعت في المخيم، ومن ثم هاجرنا إلى الإمارات لأعيش مراهقة في صحراء لا أرى فيه سوى أبي وأمي وأخوتي، ومن ثم عدت إلى غزة حيث أكملت دراستي الجامعية وعملت في الصحافة لوكالة إسبانية. بعد ذلك، قررت الهجرة مجدداً إلى إسبانيا ومن ثم فرنسا. حصلت هذه التغييرات كافة في زمن قصير وكان عمري 22 عاماً. في الحياة، لم أقبل أيضاً بالرضى أو ما يلقى إليّ من أوامر ولم أتأقلم أبداً مع المجتمع التقليدي الخانق لحرية الفرد، خصوصاً أنني أنثى، فأنا من عائلة فقيرة تقليدية ومحافظة، ولكنني اخترت الهرب واللجوء إلى مكان آخر أصنع فيه حياة كريمة من دون أي قيود. لفتت الكاتبة جرأة الفتاة الصغيرة الآتية من عائلة ومجتمع تقليدي محافظ وفقير وحلمها بصناعة حياة أفضل والوصول إليه بكل كرامة والحفاظ على جذورها. تعطي القصة الكثير من الأمل لنساء في مجتمعاتنا يرضخن لمنطق ذكوري، تقليدي لا تصنف فيه المرأة القوية أو المرأة المتصالحة مع أنوثتها، فترانا نصنفها إما راضخة وإما عاهرة. لا يريد المجتمع ولا يسمح لامرأة أن تصنع مصيرها وقرارها من دون اللجوء إلى الرجل.

ما القضايا البارزة التي أثرتها في الكتاب؟

شاركت في الكتاب أيضاً الناشطة في حقوق الإنسان كاتي مايور، ويروي قصتي مع المنفى إضافة إلى 11 قصة لنساء رفضن الرضوخ لظلم سياسي، عقائدي، اجتماعي، ثقافي أو أياً كان نوعه ومحاولة تشكيل هوية ما ووطن ما حيث لا تقمع فيه حرية الفرد أو أن يتم تجريده من إنسانيته.

يهدف الكتاب إلى توضيح اختيار المنفى والدوافع التي أجبرت كل امرأة منا على ترك جذور الماضي بما فيه من ذكريات وحنين وعلاقات اجتماعية، وأخذ القرار المؤلم في اختيار المنفى كلجوء بديل للحماية من القتل أحياناً أو لنيل العيش بكرامة في أحيان أخرى. يذكر الكتاب المعاناة التي مرت بها كل واحدة منا للوصول إلى هذا البديل والصعوبات التي واجهتنا لفرض هويتنا والاندماج في الهوية الجديدة وتقبل الثقافة الجديدة، فضلاً عن الصراع اليومي لتحدي العنصرية من الجهات الرسمية التي تنادي بالحد من المهاجرين.

يحتوي الكتاب على أمثلة لقوة الإرادة والتشبث بالأمل والدفاع عن الحرية الفردية، في زمن تتشابه فيه الأوجه وتختلط المعالم لتضيع هوية الفرد في محاولة منه لتقليد الآخر والاندماج في ثقافته، من دون أي وعي للخطر الذي يؤدي إلى ضياعه. فثمة للأسف من يعتقد بأن إنكاره لجذوره ولغته ونفيها، بل ويمتد به الأمر أيضاً إلى التجريح والطعن بها، محاولة منه لكسب محبة الآخر واعترافه. كي أصل إلى نهاية موجزة، سأعترف بحقيقة أن لكل منا قصتها، تاريخها، آلامها، حنينها، لكننا في نهاية المطاف، ورغم اختلافاتنا العقائدية والثقافية والدينية والحضارية، نجتمع في مصير صنعناه بأيدينا وهو الاحتفاظ بكرامتنا الإنسانية مهما كانت الصعاب!

 

لو أن الكتاب صدر بالعربية، هل كنت ستتحفظين على البوح ببعض القضايا عن حياتك؟

استعد لكتابة تجربتي باللغة العربية. ربما لو جاء سؤالك في بداية معيشتي هنا وكوني لاجئة جديدة لأجبتك بالنفي، ولكن مع مرور الوقت والتئام الجرح وتكوين ثقتي وقوتي الداخلية من خلال هذه التجارب كافة أصبحت أملك الجرأة للكتابة عن تفاصيل قد تكون مزعجة لمجتمع محافظ وغرضي، ليس بهدف التحريض بل لوصف صادق لما عشته، وكيفية التشبث بالأمل كي نصل إلى سعادة نسبية وتصالح مهم وكبير مع الذات. ربما تستلهم من الكتاب فتيات يعشن بمثل حالتي، لذا يظل الإصرار على الكتابة بالعربية موجوداً، ولهذا السبب اخترت أن أواصل الكتابة بالعربية لمشاركة أفكاري على شبكات التواصل الاجتماعية.