كان الرئيس محمد مرسي في باكستان الأسبوع الماضي؛ حيث تم تكريمه في محفل علمي، كما مُنح درجة دكتوراه فخرية؛ ولذلك فقد كان عليه أن يلقي كلمة تشيد بالعلاقات المصرية- الباكستانية من جهة، وتحتفي بالعلم من جهة أخرى.

Ad

لكن الكلمة التي ألقاها الرئيس جلبت عليه انتقادات حادة متعددة؛ فقد غرقت في عدد كبير من الأخطاء السياسية والعلمية، بدرجة رأى بعض الباحثين والسياسيين المصريين أنها تمثل "واقعة مخزية" أخرى للرئيس المستجد في هذا المنصب الرفيع، وذهب آخرون إلى أنها تشكل ضرراً على صورة الدولة المصرية، وتخصم من صورتها الذهنية لدى العالم الخارجي.

لم تعد أخطاء الرئيس تمثل مفاجأة على الإطلاق لأي من المصريين، سواء كانوا من مؤيديه أو معارضيه؛ فحتى أخلص مناصري جماعة "الإخوان المسلمين"، وتيار الإسلام السياسي عموماً، لم يصبحوا قادرين على الدفاع عن قرارات الرئيس وطريقة أدائه لمهامه، وهؤلاء يكتفون عادة بالقول إنه: "يحتاج وقتاً... أعطوا له فرصة"، أو يقارنونه بمبارك، معتبرين أنه "ليس فاسداً"، أو يتذرعون بكونه "ملتحياً ويصلي ويحج ويعتمر... وكفى بها نعمة".

إذا كتبت عبارة "أخطاء مرسي" على محرك البحث "غوغل"، فسيظهر لك نحو 40 ألف نتيجة؛ وهي النتائج التي ستقودك إلى موضوعات كُتبت عن الأخطاء التي وقع فيها الرئيس، وستجد بعض تلك النتائج مقترناً بكلمة "الكوميدية"؛ إذ استطاع المصريون تحويل شعورهم المرير حيال تلك الأخطاء إلى سخرية حادة ولاذعة كعادتهم دائماً.

منذ أذاع الإعلامي اللامع باسم يوسف، في برنامجه "البرنامج"، مقطعاً مصوراً يعود إلى صيف العام الماضي، ويُظهر مرشد جماعة "الإخوان" محمد بديع يلقن همساً الرئيس مرسي (المرشح الرئاسي آنذاك)، أثناء إلقائه خطاباً، كلمة "القصاص"، لم يتوقف المصريون عن تداول المقطع الذي تمت مشاهدته ملايين المرات.

كان المرشد يحاول إخفاء حركة شفتيه، ويخفض صوته بحيث لا يسمعه سوى مرسي، ناسياً أن أمامهما عدداً كبيراً من "الميكرفونات"؛ فكانت النتيجة أن كلمة "القصاص" التي أراد مرشح "الإخوان" أن يقولها، ليكسب بها ود أنصار الثورة، سُمعت من الجميع إلا هذا الأخير.

يتداول المصريون هذا المقطع تحت عناوين عديدة، لكن أكثرها تكراراً يقول: "بديع ومرسي والقصاص... مسخرة".

لم يمض الرئيس في منصبه سوى أقل من تسعة شهور، ومع ذلك فإن أداءه بات لصيقاً بكلمات من نوع "مسخرة"، و"فضيحة"، و"سقطة". يخاطب مرسي المصريين، في مستهل حكمه، فيقول "أهلي وعشيرتي"، ويبرر أنصاره ذلك بداعي "التعبير عن المحبة، وكانعكاس لمرجعيته التقليدية". ثم يرطب إصبعه بلعابه، ليُسهل تصفح الأوراق، بداعي "البساطة والتلقائية"، ثم يستدعي خلافاً تاريخياً طائفياً، فيترضى على الصحابة الكرام في مؤتمر أممي، بداعي "الانتصار للسنة وإخزاء الشيعة". يلمس مرسي مناطق حساسة في جسده أثناء لقائه رئيسة وزراء أستراليا أمام عدسات الكاميرات، بداعي أن "كلنا يفعل ذلك، والأمر غير مقصود"، ثم يفسر آية قرآنية تفسيراً مغلوطاً في ضيافة علماء أزهريين، بداعي أن "للمخطئ أجر، وللمصيب أجران"، ويرسل "رسالة حميمية" لبيريز يخاطبه فيها بـ"الصديق الوفي"، بداعي "الاعتبارات الإجرائية والبروتوكولية". يصدر مرسي قرارات بإعادة مجلس الشعب بعد حله بحكم قضائي، وبإطاحة النائب العام، وبزيادة الأسعار، وبفرض حظر التجوال في مدن القناة، وبإصدار إعلان دستوري هزلي، ويعود عنها جميعاً، في سابقة لم تعرفها مصر على مدى تاريخها الممتد لآلاف السنين.

ذهب الرئيس إلى أحد معسكرات الشرطة، حيث أدى صلاة الجمعة قبل الفائتة مع ضباط وجنود الأمن المركزي، ثم خطب فيهم قائلاً ما معناه إنهم كانوا "في القلب من عبور ثورة 25 يناير". لقد فوجئ المصريون بهذا التقييم مفاجأة كبيرة؛ إذ بدأت ثورة يناير بانتفاضة ضد الشرطة استهدفتها في يوم عيدها، وتحولت تلك الانتفاضة إلى ثورة حينما انهارت الشرطة نفسها يوم 28 يناير، وبعدما سقط أكثر من 800 قتيل في المواجهات التي جرت بين المتظاهرين ورجال الأمن.

يتساءل المصريون: هل كان الرئيس يعرف ذلك، وأراد التحايل أو تزوير التاريخ، وتلك ستكون مصيبة؟ أم أنه لا يعرف ذلك، وتلك ستكون مصيبة أكبر؟

في كل زيارة خارجية يقوم بها الرئيس تتفجر الانتقادات الحادة لأدائه المثير للجدل؛ فقد حدث ذلك إثر زيارة لباكستان، وأيضاً ألمانيا (في واقعتي الحديث بالإنكليزية المهشمة، وتكرار النظر في الساعة أثناء اللقاء مع ميركل)، وقبلها إيران، وأثناء زيارته للولايات المتحدة، التي التقى خلالها رئيسة وزراء أستراليا.

أول أمس الجمعة، كان المتظاهرون من التيارات المدنية المعارضة لـ"الأخوان" يحاصرون مقر "الجماعة" في منطقة المقطم بالقاهرة، حيث كان الهتاف الرئيس لهم: "يسقط يسقط حكم المرشد".

لا أعرف إلى أي حد يشعر الرئيس بمرارة إزاء هذا الهتاف.

مشكلة هذا الهتاف أنه لا يمكن اعتباره مجرد احتجاج من فصائل سياسية أو مواطنين غاضبين على سياسات الرئيس أو حزبه، أو حتى محاولة للوقيعة بين أعضاء الفصيل السياسي الحاكم. مشكلة هذا الهتاف أنه يعكس إدراك الكثيرين لأن الرئيس لا يحكم، وأنه مجرد ممثل للمرشد في قصر الرئاسة، يتلقى الأوامر والتلقين، كما كشف الشريط المصور الذي أذاعه باسم يوسف.

في يوم أمس الأول نفسه، اشتعلت التظاهرات في عدد من المدن المصرية؛ حيث صور متظاهرون في المنصورة الرئيس على أنه "دمية" يتم تحريكها والعبث بها.

وفي القاهرة، اختار أعضاء حركة 6 أبريل، وهي إحدى الحركات التي شاركت في ثورة يناير بفاعلية، أن يتظاهروا أمام منزل الرئيس في منطقة التجمع الخامس، لكنهم عبروا عن موقفهم بطريقة رمزية مستحدثة وموجعة في آن... لقد نثروا أعواد البرسيم الأخضر على الأرض في مواجهة مسكن مرسي. المصريون يعرفون أن أعواد البرسيم هي أفضل غذاء يقدم للبهائم والأغنام.

ليس هناك ما هو أكثر مرارة من ذلك سوى ما حدث حينما أصدر الرئيس قراراً متسرعاً وغير مدروس بفرض حالة الطوارئ في محافظات القناة الثلاث (الإسماعيلية والسويس وبور سعيد) إثر أعمال عنف واحتجاجات، في نهاية شهر يناير الماضي.

لقد تحدى المواطنون في تلك المحافظات الثلاث القرار بطريقة موجعة جداً؛ فقد نزل الكثيرون منهم إلى شوارع المدن في موعد بدء سريان حظر التجوال، وسهروا حتى الصباح وسط احتفالات صاخبة، ونظموا مسيرات بالدراجات النارية، وأقاموا مسابقات للعب كرة القدم... والأنكى من ذلك أنهم استهدفوا الرئيس بهتافات جارحة ومسيئة يصعب نقلها.

يشعر الكثير من المصريين بفقدان الأمل والانسداد ويهيمن عليهم شعور بالتشاؤم لأن أحوال البلد تتراجع باطراد، والأزمة السياسية تستحكم، والاستقطاب يزداد، والرئيس يبدو عاجزاً عن فعل أي شيء أو اتخاذ أي قرار، وهو أمر خطير بكل تأكيد.

لكن ثمة إشكال كبير آخر يجب الانتباه إليه؛ فعلى عكس ما دأبت عليه مصر على مر عصورها من احترام مكانة الفرعون/ الملك/ الرئيس، أو أيا كان يجلس في موقع السلطة الأول، فإن الرئيس اليوم يفقد الاعتبار.

إنه إشكال كبير؛ إذ يمثل فقدان الرئيس الاعتبار إغراء بالمنصب وهيبته ورمزيته وصلاحياته... إنه إغراء بالدولة نفسها، وتعريض بها، وانتقاص من شأنها، وهو أمر ستكون له انعكاسات خطيرة، وستمتد آثاره لعقود مقبلة.

* كاتب مصري