للأفكار أجنحة!
فرضت قناة {آرتيه} الفرنسية الألمانية نفسها على الساحة السينمائية المصرية، بعد عرضها فيلم {الخروج من القاهرة} الذي اتخذ جهاز الرقابة على المصنفات الفنية في مصر قراراً نهائياً بحظر عرضه، وحال دون مشاركة مخرجه في دورة {مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية} الأولى، وهدد بمحاكمته لأنه تجرأ وشارك به في مهرجان دولي ـ دبي السينمائي في دورته السابعة (2010 ) ـ وهو يحمل الجنسية المصرية!استحقت القناة كثيراً من الثناء، بعد خطوتها الإيجابية التي لم تجرؤ قناة مصرية على اتخاذها، لكنها فجرت عاصفة من الجدل حول الغياب الملحوظ لصناعة السينما المصرية على شاشات القنوات المصرية، الحكومية والخاصة، واكتفاء القنوات كافة ببرامج تعنى بتغطية «كواليس» تصوير الأفلام أو الإفراط في إجراء حوارات تافهة مع نجوم السينما من باب «ذر الرماد في العيون»!
المثير أن قناة «آرتيه» لم تكتفِ بعرض الفيلم المصري «الخروج من القاهرة»، إنما نظمت برنامجاً، في إطار مشاركتها في مهرجان «زووم حول الماضي» الذي أقيم في مكتبة السينما في مدينة تولوز الفرنسية، عرضت فيه ثلاثة أفلام مُنعت من العرض؛ «معركة الجزائر» (1965) للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو الذي منعت السلطات الفرنسية عرضه في فرنسا حتى 2004، لإشارته إلى معارك جبهة التحرير الوطني في الجزائر ضد المحتل الفرنسي، وكشفه أشكال التعذيب التي مورست في حق الجزائريين. «الباحثون عن الشمس» (1958) للمخرج الألماني الشرقي كونراد وولف الذي لم يُمنع لأنه تناول الظروف القاسية التي عاش في ظلها عمال مناجم اليورانيوم، بل لأن السلطات في الاتحاد السوفياتي السابق رأت أن «الكشف عن استخراج اليورانيوم يُخلّ بمقتضيات الأمن القومي». أما الفيلم الثالث، في إطار البرنامج، فهو «تمرد» (1970) الذي أخرجه الألماني الغربي أبرهارد أتزنبليتز، وتمحور حول جماعة من الشباب الألماني تقرر، هرباً من وطأة الفقر واعتراضاً عليه، اللجوء إلى التمرّد المسلح، وكانت السلطات الألمانية الغربية منعت عرضه بسبب انضمام أولريكه مينهوف كاتبة سيناريو الفيلم إلى جماعة «الجيش الأحمر»! تبنت قناة «آرتيه» المبادرة، ولقنت القنوات المصرية، وربما العربية عموماً، درساً في كيفية دعم السينما، وإسقاط الحواجز التي تقف في طريقها، والتأكيد على أن الأفكار لها أجنحة، وأن أحداً أو جهة مهما كانت سطوته، لن يملك مصادرة الإبداع أو قمع المبدعين، لأن قرارات المنع والحظر، لن تستمر طويلاً، ومصيرها الانهيار تحت أقدام «الحرية». وجهت القناة الفرنسية الألمانية رسائل ذات مغزى إلى السلطات في مصر وفرنسا والاتحاد السوفياتي ودول العالم قاطبة، كذلك برهنت فهمها الصحيح للدور الذي ينبغي أن تؤديه القنوات الفضائية، في ظل عالم تحوّل إلى «قرية مفتوحة»؛ فالترفيه هدف مهم للقنوات الفضائية لكنه ليس الهدف الأسمى والوحيد، بل تكتمل الرسالة الإعلامية من خلال «استراتيجية» بناءة تقوم على تثقيف جمهور المشاهدين وتوعيته، وهو الهدف الحيوي الذي يمكن أن تضطلع به قنوات السينما؛ في حال لم ننظر إليها بوصفها «قنوات تسلية» تعمل على «تسطيح العقول»، وتسيء إلى الفن عبر التركيز على تفاهة القيمين عليه، وإظهارهم في صورة «المهرجين»! بمقدور قنوات السينما والبرامج المتخصصة التي تراجع عددها بصورة ملحوظة، أن تقتدي بقناة «آرتيه»، وتُسهم بشكل كبير في إنقاذ صناعة السينما المصرية من الانهيار الخطير الذي وصلت إليه، سواء بمناقشة أسباب هذا الانهيار، عبر مائدة مستديرة تتبناها هذه القنوات أو ندوات مع أصحاب الشأن، تقترح الحلول التي تجنب الصناعة المصير المخيف الذي ينتظرها، أو تدعم الصناعة في وجه كل صور القمع والقهر وتكبيل الإبداع، على رأسها الرقابة التي يمكن لقنوات السينما المتخصصة الحد من تسلطها وتجبّرها، ببرنامج يتوقف عند الأفلام التي امتد إليها مقص الرقيب، أو تلك التي تعرضت إلى بتر نهاياتها، ويُصبح سيفاً مُسلطاً على من تسوّل له نفسه اللجوء إلى سلاح المصادرة. غير أن المفارقة التي يجدر التنويه بها أن «تاكسي السهرة»، قناة سينمائية متخصصة، سبقت قناة «آرتيه» عندما أعلنت عن مبادرة لكسر الحظر المفروض على بعض الأفلام العربية، وحددت منتصف ليل أحد أيام الأسبوع لعرض الفيلم المحظور لأسباب رقابية، لكنها فوجئت بعد أسابيع من ظهور المبادرة إلى النور بعاصفة من الهجوم الشرس، والاتهام بأنها تُشيع الفاحشة وتتحدى الرقابة، وكأن ثمة من يرى أنه عاجز عن امتلاك حريته، وقراره، ولديه يقين جازم بأن الرقابة «شرٌ لا بد منه»!