يفجر الحوار الذي أجرته جريدة {الجريدة} الموقرة مع الفنانة القديرة محسنة توفيق، بمناسبة حصولها على جائزة الدولة التقديرية، إشكالية مهمة تتعلق بالمصير الذي يلقاه الفنان المصري في حال إعمال ملكة التفكير التي حبا الله بها؛ حيث يلقى معاملة سيئة من المهيمنين على العملية الإنتاجية، الذين يتجاهلونه ويحاصرونه، ويجبرونه على دفع ثمن مواقفه، ووجهات نظره، وغالباً ما تنتهي به الحال معتقلاً في منزله، وكأن حكماً صدر عليه بأن يصبح {قيد الإقامة الجبرية}!

Ad

أكاد أستشعر نبرة الحزن في حديث الفنانة القديرة، وهي تُعلن أنها {تُعاني حالة نفسية سيئة بسبب تجاهل الوسط الفني لها، ومن ثم جاءت الجائزة بمثابة قبلة الحياة بالنسبة إليها، وحسنت حالتها النفسية، كما أشعرتها بالسعادة، لأن ثمة من يتذكرها بعد سنوات طويلة من التجاهل}.

في تقديري أن فنانين كثراً يعيشون المأساة نفسها التي تعيشها محسنة توفيق أذكر منهم الآن: عبد العزيز مخيون، نبيل الحلفاوي، مدحت مرسي، محمود حميدة ومحمد صبحي... وغيرهم ممن دفعوا ثمناً باهظاً لمواقفهم الجادة أو مجاهرتهم بفهمهم المختلف لرسالة الفن بالدرجة التي دفعت المنتجين، وربما المخرجين، إلى تجميد التعاون معهم، بحجة أنهم {مثقفون}!

لم يشفع للفنانة القديرة محسنة توفيق مشوارها الطويل، الذي بدأته بالحصول على وسام الدولة في العلوم والفنون (1967)، وكونها أصغر من حصل عليه حتى الآن، مثلما لم تنقذها الأدوار الرائعة التي جسدتها في أفلام: {العصفور}، {إسكندرية ليه}، {قلب الليل} و}الزمار}، وفي الدراما التلفزيونية مثل: {ليالي الحلمية}، {الوسية} و{المرسى والبحار}؛ وفوجئت، كما فوجئ الجمهور والنقاد، بغيابها عن الساحة قرابة ثماني سنوات لم يطرق بابها أحد من المنتجين والمخرجين، ورغم ذلك تباغتها وسائل الصحافة المرئية والمكتوبة بالسؤال الأبدي: {ما سبب غيابك عن الأعمال الفنية؟}!

مشكلة محسنة توفيق أنها تُعلي من شأن كبريائها الفنية، وتولي اعتباراً كبيراً لكرامتها الإنسانية، ولهذا لا تمانع، وهي في ذروة معاناتها من التجاهل، أن ترفض بشكل قاطع الأعمال دون المستوى، وتضع شروطاً للأدوار التي توافق عليها، ما أثار حفيظة المنتجين والمخرجين، ممن لم يألفوا مواجهة هذه النوعية من الفنانين، فما كان منهم سوى أن امتنعوا عن عرض أي عمل جديد عليها، وفرطوا، بسهولة عجيبة، في استثمار طاقة إبداعية ضخمة، وخبرة فنية كبيرة لا يُستهان بها في الدول التي تُدرك قيمة فنانيها المخضرمين.

تعرضت محسنة توفيق للعزل السياسي، والمنع من العمل، والنقل من وزارة الثقافة إلى هيئة الاستعلامات، لكنها لم تتراجع أو تُهادن، وظلت متشبثة بمبادئها وإنسانيتها وروحها الثورية ورفضها أشكال النفاق والانتهازية التي أصابت عدداً من زملائها في الوسط الفني، ولم تتردد في إعلان استنكارها لها ولهم، بنفس درجة استهجانها لتراجع الوعي السياسي للمخرج يوسف شاهين، الذي وصفته بأنه {عبقري}، وأحد أفضل المخرجين في تاريخ السينما المصرية، لكن شيئاً لم يمنعها من القول إنه {كان مُشوشاً سياسياً في بعض أفلامه؛ مثل {الآخر}، وأنه {لم يكن قوياً بالدرجة التي تجعله يصمد}، وأنه {عانى أزمة نفسية كونه ابن الطبقة التي ينتمي إليها، وتحكمت به المواءمات والتوازنات، على عكس فنانين كثر وأنا منهم، لم ننكسر بعد ما حدث لنا وحافظنا على مبادئنا}.

صراحة قد يراها البعض موجعة، وتتناقض مع تصريحات الفنانين التي تتسم دائماً بالتحفظ، وربما المجاملة التي يُطلقها عليه البعض {ديبلوماسية} لذا لم يكن غريباً على {المناضلة} محسنة توفيق أن تتهم الإعلام المصري، وطريقة تناوله للأحداث، بأنه {يمارس التضليل، وبتر وتلفيق الحقائق}، وتصف ما يحدث في معظم القنوات الفضائية بأنه {تزوير فاجر}، ثم تهاجم قرار  مقاطعة الأعمال التركية وترى أنه {نوع من {النطاعة السياسية} وادعاء بطولة زائفة}!

غير أن أكثر ما أحزنني في حوار الفنانة القديرة مع {الجريدة} تأكيدها أنها لا تتابع الدراما التلفزيونية خشية أن تشاهد عملاً يناسبها وتشعر بالحزن لأنه لم يُعرض عليها، فما قالته، وسجلته بصراحة، يعني أن حكماً بالإعدام صدر ضدها، وهي ما زالت على قيد الحياة، وهو ما ينطبق بالضبط على فنانين كُثر واجهوا المصير نفسه فيما ينعم {المهرولون} و{الأفاقون} و{الانتهازيون}، كما وصفتهم محسنة توفيق، بالتربح من مواقفهم المتضاربة، والاستفادة من الأحداث الجارية، لتصب في مصالحهم الشخصية، وتُفاقم نرجسيتهم المطلقة، وتُزيد من انكفائهم على ذواتهم؛ ففي كل الأحوال هم ليسوا مضطرين إلى دفع الثمن لأنهم، ببساطة، لا يفكرون!