ابن خلدون يستبق نظريات عصره
تأسس الوعي التاريخي لدى العرب بنظرة رومانسية لا تطرب إلا للبطولات والأمجاد، وتجنح في أحيان كثيرة إلى ما هو أكثر من ذلك، فإن وجدت خرافات وأساطير أضافتها، وهذا يؤدي إلى وعي مزيف بالتاريخ الذي تتحرك قوانينه، كما تتحرك قوانين العالم المعاصر.
احتاج ابن خلدون إلى سنوات أربع عندما كتب "مقدمته" في قلعة "بني مرير" التي سجنه فيها أحد الأمراء (ويبدو أن السجن للمثقفين شرارة الإبداع لديهم)! وهذه ليست دعوة إلى سجنهم بل إلى إبداعهم!وهذه مقالة ثانية عن ابن خلدون تتوازى مع حجم "المقدمة" لقد وجدت أن ابن خلدون لا يزال مفكراً سياسياً معاصراً، لفكره ارتباط وثيق لم يترحل بعد، عن عدد من الأوضاع العربية المعاصرة، بل عدد من القضايا العالمية التي ما زال عالمنا يتناقش بشأنها في القرن الحادي والعشرين.
ويمكن إيجاز هذا الجانب الخلدوني السياسي "المعاصر" في النقاط التالية:1- يحتاج العرب إلى تغيير نظرتهم للتاريخ، ومنه تاريخهم، بطبيعة الحال ليعرفوا كيفية التعامل مع واقع العالم الذي هو حاضر التاريخ البشري، فالمسألة ليست مسألة تاريخ إنما مسألة حاضر.فقد تأسس الوعي التاريخي لدى العرب بنظرة رومانسية لا تطرب إلا للبطولات والأمجاد، وتجنح في أحيان كثيرة إلى ما هو أكثر من ذلك، فإن وجدت خرافات وأساطير أضافتها، وهذا يؤدي إلى وعي مزيف بالتاريخ الذي تتحرك قوانينه، كما تتحرك قوانين العالم المعاصر... إذ لا توجد أمة خرجت من التاريخ إلى الأبد إلا إذا أصرت على إعادته بحرفيته المنقضية. فوعي التاريخ، على أهميته في تأسيس الوعي الصحيح لأي أمة، خصوصاً إذا كانت تعاني ما يعانيه العرب في حاضرهم، يمكن أن يمدهم بالرؤية السليمة لما يمرون به بدل جلد الذات.نقول إن هذه هي الرؤية الموضوعية، لا النظرة الشعرية أو الرومانسية التي لها مكانها في حياة الأفراد والجماعات، ولكن ليس في مجال التعامل مع واقع العالم، لأن مثل هذه النظرة إن بقيت مسيطرة على ردود فعل الأمة فإنها كارثية الانتحار.ويبقى ابن خلدون أبرز مؤرخ عربي دعا إلى ضرورة التنبّه للعوامل الموضوعية في فهم التاريخ، وتمثل مقدمته التي احتلت مكانتها في التراث الفكري للإنسانية وليس للعرب وحدهم، وثيقة لا يُستغنى عنها، خصوصاً في الراهن العربي لتأسيس وعي تاريخي علمي وموضوعي بحقيقة الذات، والآخر وتأصيله.2- إن ابن خلدون يحذر من دورة انهيار تاريخي شبه حتمي للأنظمة السياسية العربية التي تبدأ بالحزم والتقشف، ولكن تنتهي أجيالها التالية تدريجياً إلى الترف المهلك بما يفقدها فضيلة المدافعة والممانعة نحو بقائها ووجودها، هذه الدورات التاريخية المهلكة هل تستطيع أنظمتنا السياسية الراهنة كسر حلقاتها والخروج منها إلى آفاق تاريخية جديدة؟الجواب ليس سهلاً أمام هذا القانون الخلدوني الذي قام على شواهد تاريخية متواترة نراها رأي العين في الكثير من أنظمتنا السياسية الراهنة، والنور الوحيد في آخر النفق، ربما يتخطى زمن ابن خلدون، ويمكن أن يتمثل بحركة إصلاح جريء وجذري، وتجديد شامل للحياة من السهل قول ذلك، ولكن من الصعب للغاية فعله وتنفيذه وإنجازه.ولكن لا بد مما ليس منه بد، إن امتلكت أنظمتنا إرادة البقاء... البقاء المتماشي مع رياح التغيير وحركة العصر، وليس البقاء الاستبدادي الأرعن. وابن خلدون في تشخيصه المذهل لواقع نهاية هذه الأنظمة في ماضينا، يتحدث بإلحاح عن خطر: "الترف المؤذن بخراب العمران" أنه الحالة الاستهلاكية المتسيبة والمنفلتة بلغة عصرنا التي تعيشها نخب هذه الأنظمة في لا مبالاة، ولو كان ابن خلدون حياً ورأى التهالك المفجع على الربح دون إنتاج، خصوصاً في دول النفط، لصرخ قائلاً: انظروا... هذا هو الترف المؤْذِن بخراب العمران... عمرانكم الراهن اليوم. وابن خلدون من تلامذة القرآن الكريم... الذي حذر من الترف المؤدي للهلاك في آيات كريمة عديدة.3- يتلازم لديه مع هذا الترف في تخريب العمران "ظلم الرعية" حسب تعبيره: ذلك الظلم الذي يدفعهم إلى الانقلاب على سلاطينهم والوقوف إلى جانب الأعداء، داعياً سلاطين عصره إلى اكتساب قلوب الرعية بالمودة والإحسان والعفو، تعزيزاً لدولهم.4- وفي لفتة أخرى: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية (أي النظام الضريبي في زمنه)، وهو ما يلخص واقع الفساد الحكومي إلى يومنا. ولهذا اشترط العرب الشرفاء على عوائلهم المالكة "إما التجارة، وإما الإمارة" ولا خلط بينهما.5- أدرك ابن خلدون أهمية مراعاة قوانين التغيير التي ينبغي أن تأخذ بأسباب القوة الحقيقية، يقول: ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، رجاء الثواب من الله، فيكثر أتباعهم والمتمثلون بهم، من الغوغاء والدهماء ويعرضون في ذلك أنفسهم للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، مأزورين غير مأجورين، وأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم. وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر... وهكذا كانت حال الأنبياء في دعوتهم إلى الله، وهم المؤيدون من الله بالكون كله، لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة... وكأنه يشخص الحالات الانتحارية الإرهابية في عصرنا!6- ويقرر ابن خلدون، انطلاقاً من نهجه الواقعي، أن "أهل الحل والعقد" في الحقيقة هم قادة القوى المجتمعية المؤثرة، وليسوا هم الفقهاء الذين يؤخذ رأيهم على سبيل التبرك.7- أدرك ابن خلدون هشاشة المجتمع المدني الحضري في المجتمعات العربية، حيث أشار إلى أن أهل الحاضرة "عيال على غيرهم في الممانعة والمدافعة"، وهي إشكالية مازالت تواجه المجتمعات المدنية في المدن العربية، أمام قوى البادية والأرياف التي تحتكر إنتاج السلطة ممثلة بذلك أخطر العوائق أمام التطور الديمقراطي الحقيقي.8- يبدو ابن خلدون معادياً في الظاهر للفلسفة، عندما يكتب "في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها"، لكنه في واقع الأمر وفي ضوء فلسفته الاجتماعية يعتبر في مقدمة أولئك المفكرين الذين أنزلوا الفلسفة من السماء، من أجل فهم الواقع، وقد ظل نهجه العقلاني في كل سطور المقدمة محارباً الأوهام والأساطير، فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقيا لتحل محلها فلسفة الفيزيقيا المجتمعية، التي يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها.وتبقى مقدمة ابن خلدون ليست مجرد مقدمة في التاريخ، إنما "مقدمة" لا غنى عنها، لتأسيس وعي عربي جديد قادر على التعامل مع العالم بموضوعية فاعلة.ولن يختلف العرب على "انتماء" هذا المؤرخ، فهو ينتمي أصلاً إلى حضرموت من بلاد اليمن، ثم إنه أندلسي وكتب مقدمته في المغرب ورحل إلى تونس وأقام لفترة طويلة، ثم رحل إلى مصر المملوكية وصار "قاضي القضاة" فيها، ومات ودفن في مصر.* كاتب ومفكر من البحرين