تمر علينا ذكرى اغتيال د. فرج فودة، الذي قتل على يد الجماعات الإرهابية، التي صالت وجالت في التسعينيات، حين كان الإرهاب يعصف بمصر.
كنت هناك أكمل دراستي الجامعية، أتذكر أحداث الإرهاب والاغتيالات التي حصلت وقتها، وكان أحدها قريباً جداً من جامعتنا، وفي الشارع الذي نمر عليه كل يوم.وكانت لافتات "الإسلام هو الحل" معلقة على أسوار الجامعة وفي كل مكان. وفي هذا المناخ الرديء المرعب كان شهيد الكلمة د. فرج فودة يضع نفسه أمام فوهة المدفع بشجاعة نادرة في تصديه لتلك الأحداث الإجرامية والفكر السائد. فتحدث حين كان الصمت يلف المكان، وواجههم وهو يعلم أن اسمه قد وضع في قائمة الاغتيالات، ليأتي رده وهو محاط بسيوف الإرهاب: "لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم... إنما يؤرقني أشد الأرق ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأى لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة... وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها... وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر ألا أكتب ما أكتب".يا إلهي... كم تسكن بوجداني ذكراه... شجاعته... كتبه... كلماته، المحفورة في أعماق الذاكرة والقلب... تمر السنون ويحدث ما تنبأ به وحذر منه شهيد الكلمة، لتصل رسالته كما تمنى لشباب مصر، الذين يقرأونه اليوم أكثر، ويؤبنونه أكثر، ويرددون ما قاله أكثر... ها قد وصلت رسالته التي وجهها إلى المستقبل... لجيل ابنه أحمد وزملائه، الذين أهداهم كتابه فكتب في مقدمته: "إلى زملاء ولدي الصغير أحمد... الذين رفضوا حضور عيد ميلاده... تصديقاً لمقولة آبائهم عني... إليهم حين يكبرون، ويقرأون... ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم... وأن ما فعلوه كان أقسى علي من رصاص جيل آبائهم"... اليوم ينتفض هذا الجيل ويغضب لعفو الرئيس عن قاتله وعن قتلة ذلك الزمان، اليوم فقط بعد أن تكالب خذلان الزمن وجحوده عليه، فلم تتم محاسبة "المشايخ" الذين أصدروا بيان التكفير في حينها، ولم تكن محاكمته عادلة حين دافع "الشيخ" محمد الغزالي عن قتلته، الذين لم يرتكبوا بنظره جريمة إلا "افتئاتهم على السلطة".. هكذا بدم بارد استحل دم مفكر لا يملك إلا قلمه وشجاعته... وقد جاء بيان التكفير بعد المناظرة الشهيرة (قبل اغتياله بفترة قصيرة) بينه وبين جماعات الإسلام السياسي بعنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، التي حضرها الآلاف، وفند خلالها د. فودة حججها الدينية والتاريخية والواقعية وسط صراخ وضجيج لم يخفه أو يردعه.يختلف تأبين شهيد الكلمة هذه السنة عن كل سنة، فمن ناظروه في المناظرة التاريخية، يحكمون اليوم وينتصرون لقتلته، هؤلاء من تمكنوا فاستبدوا، الذين قالت عنهم ابنته سمر فرج فودة: "أول ما تمكنوا أخرجوا من قتلوا أبي وأصبحوا طلقاء، ومنهم من يشرع القوانين باسم الدين"... يختلف التأبين اليوم لأن المصريين يشهدون ما حذر منه، من التحول إلى دكتاتورية دينية... وها هي كلماته التي كتبها قبل أكثر من عشرين سنة حية نابضة وكأنها كتبت اليوم.كان صوته (وقلة من رفاقه) وحيداً وسط الضجيج والرعب والمناخ الرديء قبل أكثر من عشرين سنة... اليوم تردد تلك الأجيال ما كان يقوله... ها قد حانت لحظة الحقيقة المرة... التي يواجهها ويكاشفها ويعريها الكثير من الشباب الثوار الذين اختطفت ثورتهم وركب الإسلام السياسي على أمواجها الهادرة... ويا لخيبة الثوار من ثورة أطلقت سراح القتلة والإرهابيين بدلاً من ترسيخ شعارها "الحرية... العدالة... الكرامة الإنسانية".اليوم ونحن نقلب أوراقك يا شهيد الكلمة وأنت ذكرى نتيقن أننا مدينون لك ولرفاقك، كما توقعت، أنت يا من دفعت الثمن باهظاً، اليوم فقط فهمك أبناء هذا الجيل الذين تتداول أيديهم وعقولهم كتبك وفكرك الذي يعاد إحياؤه... اليوم يبكونك أكثر... لأن الطريق أصعب وأخطر وأوعر.
أخر كلام
فرج فودة... نبكيك اليوم أكثر
14-06-2013