نحن في نهاية أيار والبرد ناشط. كانت حين تُمطر يجفل البردُ ويخفّ. ولكنه الآن ناشطٌ حتى مع المطر. أخرجُ حيناً خطوتين خارج باب البيت لأختبره، علّني واهمٌ بأن جدران البيوت في هذه البلاد عادة ما تحتفظ برطوبة لا سبيل إلى تحاشيها. ولأني أسير جدران لا أغادرها إلا مضطراً، فإن بردَ الرطوبة أصبح نسيجاً في جلدي. هكذا أحب أن أتوهم أحياناً. لكن هذه الأحيان سرعان ما تخيّب ظني. فالبردُ يلاحق الناس أيضاً. أراهم، وقد أحكموا على أجسادهم الدثار، يعبرون واجهة البيت، وشفاههم لا تكف عن الحركة. هل يشكون كما أشكو، وبصوت يخصُّ آذانهم وحدها، ضمائرَهم وحدها؟

Ad

حين أجلس في مبنى الملحق نصف الزجاجي، المُطل على الحديقة الخلفية، أشعر بالسلوان. لأني أرى المطرَ رؤيةَ العين، بالغَ الصفاء، رتيباً. ينهمر على الأشجار، على شتلات الورد التي لم تُزهر، والأعشابِ بوداعة من سمع نداءاتها فاستجاب. وأشعر بالسلوان لأني أسمع وقعَ المطر سمْع الأذن، ضاجّاً ولكن ضجيجَ وتريّات وخشبيات، لا ضجيج طبول. وأقول وقعه، لأني حين أسمع ضرباتِ قطراته على السطح الزجاجي أسمعُ نبضاً سماوياً عبر مكبرات صوت. أجلس هناك فأثمل، ويدب بي الخدر. المطر يصل المجهولَ بالمعلوم، السماويَّ بالأرضي، ما وراء الطبيعة بالطبيعة، اللا مرئي بالمرئي. وهذا الوصلُ يبعث الروع والنشوة لا شك، لأنه يُشعر الانسانَ المرهف بأنه موصول بالكون الرحب وصلاً مشيمياً. وأنه ليس قشة زمنية زائلة. ولذا يدبُّ بفعل هذا الاحساس ضربٌ من الكآبة لا تفسير له إلا هذا الشعور بالتماس مع المجهول. هذا هو جوابي على تساؤل الشاعر السياب: «أتعلمين أي حزنٍ يبعث المطر؟». سحرُ المطر جعل السياب يكرره ثلاثاً في قصيدته الشهيرة. والغريب أن هذا التكرار الثلاثي يتكرر هو الآخر في قصائد إنكليزية عديدة. والسياب غريزي بامتياز، يجعلك تحسب للتكرار هذا حساباً، كما أفعل مع مياهه الجوفية، وعالمه السفلي، وقمره، وبرقه... وهذا المطر طبعاً.

كان السومريون يسمّون المطر «حيامنَ الآلهة»، لأنه يُخصب الأرض، ويبعث تموز من العالم السفلي. ولا غرابة، إذا فهمنا البعد الأسطوري لحياتنا الأرضية، أن نرى الكتّابَ والشعراءَ ومخرجي السينما يستعينون بالمطر لبعث فورة الغريزة المباركة. من قرأ روايةَ ماركيز «مئة عام من العزلة» لابد يتذكر كيف أن رجلاً ابتنى لبيته سقفاً من الألمنيوم فقط ليُصغي إلى صوت وقع المطر، وهو في غمرة ممارسة الجنس مع زوجته. وقد يتذكر مشهداً في قصيدة قديمة لنزار قباني، يصف فيه الخلوةَ الشهوانيةَ بين امرأتين: «مطرٌ، مطرٌ/ وصديقتُها معها/ ولتشرينَ نواحُ./ والبابُ تئزُّ مفاصلُه/ ويعربدُ فيه المفتاحُ». ولا شك أن المطر أكثر من مألوف في مشاهد الجنس السينمائية.

يُقول العلمُ الحديث إن الصوتَ المتواتر للمطر يؤثر على موجات المخ تأثيراً مباشراً. ولأن للمخ مجسّاتٍ بالغة الحساسية ومتنوعة، فالتي تستجيب لصوت المطر تثير فيه حالةَ استرخاء عميقة، تحرره من الأحاسيسِ الضحلةِ التافهةِ التي تُمليها عليه الحياةُ اليومية. ولذلك يبدو صوتُ المطر هذا لبعض الكتاب «شعرَ الطبيعة، وما صوته إلا الموسيقى الداخلية لهذا الشعر».

تعبر هذه التأملات بي وأنا أجلس في المبنى نصف الزجاجي، دون بقية من مشاعر البرد التي كانت تأخذ بخناقي. لأن المطرَ يرفعُ المرءَ من أرضِ الحرارة والبرودةِ إلى أفقِ التواصلِ مع قواه المجهولة. هناك يتلمّس عمقَ كيانه كإنسان. وما الأسى الذي يستشْعره إلا وليد يقظةٍ خاطفةٍ على تلك القوى الخفية فيه، التي جعلت الشاعرَ السياب يعرف حزنَ المطر، ويسمع نشيجَ المزاريب إذا انهمر، ويشعر بالوحدة التي توصله إلى ضياع لا نهائي. هذا اللانهائي يشخّصه بـ«الحب»، و«الأطفال»، و«الموتى». وكأنها أقانيم وجود غير أرضي، يتراءى للشاعر في لحظة وحدته الكبيرة.