{حرق الأوبرا} عنوان فيلم وثائقي (39 دقيقة) أخرجه كمال عبد العزيز مدير التصوير السينمائي، الذي يتولى الآن منصب رئيس المركز القومي للسينما في مصر، وكما هو واضح فالمخرج لديه من الأسباب ما يدعوه إلى أن يرى أن الأوبرا المصرية التي احترقت في الساعات الأولى من صباح يوم 28 أكتوبر 1971، دُمرت «بفعل فاعل»، ولم تحترق بسبب ماس كهربائي، كما قيل وقتها. ولهذا اختار للفيلم لفظة «حرق» وليس «حريق»، في إيحاء بأن الحادث مدبر، وجريمة جنائية مكتملة الأركان، وهو الاتهام الذي تأكد بالفعل من خلال الشخصيات التي استضافها، ولا يمكن لأحد أن يشكك في مكانتها ومصداقيتها. لكنه افتقد الأدلة والوثائق التي تدين مرتكبيه ليظل الغموض مكتنفاً لغز «حريق أوبرا القاهرة». فاتهام الماس الكهربائي بأنه الفاعل المجهول سقط وتهاوى مع إجماع المصادر على أن شيئاً دُبر في الخفاء، وهو ما أكده صالح عبدون، آخر مدير للأوبرا، بقوله إنه «حريق سياسي»، فيما وصف قائد الأوركسترا السابق طه ناجي ما حدث بأنه «إرهاب قُصد به تدمير مصر»، وتساءل مدير الكهرباء في الأوبرا القديمة فايق حنا عما إذا كان المقصود من الحادث التخليص على الأوبرا، واتهم فني تغيير المناظر شحاتة أحمد إدارة المطافئ بالتواطؤ، كونها رفضت التحرك بناء على بلاغ «النوبتجي»، بحجة أنهم لم يتلقوا إشارة رسمية، وهو الاتهام الذي أيده سمير عبد العاطي النجار بالأوبرا عندما أشار إلى أن الحريق أحاط الأوبرا من أربع جهات، ولم تخف د. رتيبة الحفني اندهاشها لأن «خراطيم المياه كانت مقطوعة»، وعاد عبدون للمطالبة بالبحث عن دور «سلم الحريم» في ما جرى؛ إذ إن أحداً لم يختلف على أن ثمة «إهمالاً لا يغتفر»، و»تعتيماً على انحرافات وتجاوزات سبقت اندلاع الحريق»؛ مثل سرقة المقتنيات النادرة، كالنوتة الموسيقية لأوبرا «عايدة»، التي خطها «فيردي» بيده، و»الثريا» (النجفة) العملاقة التي تم تفكيكها وتهريبها قبل الحريق بأيام!

Ad

اتهامات خطيرة، وشهادات مفزعة لا يمكن القول بأنها مُرسلة، باستثناء قول أحدهم إنهم، يقصد الضباط الأحرار، «ماكانوش بيحبو الفن»؛ فهو اتهام يفتقر إلى الجدية، وتنسفه حقائق الواقع؛ فالضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو 1952، بقيادة جمال عبد الناصر، هم الذين مهدوا الأرضية لنهضة فنية كبرى، وفي عهد «الضابط» ثروت عكاشة بنيت أكادمية الفنون، وعاشت مصر في تلك الحقبة حالة ثقافية مبهرة.

المفارقة المثيرة أن شبهة التواطؤ والإهمال العمدي الذي تسبب في «حرق الأوبرا» لم يكن بعيداً عن إهمال آخر تمثل في بناء «كاراج» بدلاً من الأوبرا القديمة، وهو ما كان سبباً في إصابة كثيرين بصدمة عنيفة، ومن بينهم د. رتيبة الحفني التي قالت إنها كانت تُحبذ بناء صرح ثقافي كبير، بينما قارن العازف الشهير عبد الحميد جاد بين ما فعلته مصر وما قامت به فرنسا عندما أزالت «سجن الباستيل» لتبني أوبرا مكانه. وأظنها الرسالة الحقيقية للفيلم الذي كشف طغيان القبح وتراجع الجمال في حياتنا، وانهيار الثقافة، وانسحاب دور ومكانة وقيمة الفن؛ فالخسارة الفادحة لم يتم تعويضها، بعد بناء أوبرا جديدة قبيحة الشكل، والمحاولات اليائسة لاستعادة الدور الثقافي لم تنجح، نتيجة التغيير الجذري في السياسة الثقافية للدولة، حسبما قالت د. ماجدة صالح باليرينا مصر الأولى سابقاً.

نجح كمال عبد العزيز في حشد كثير من الوثائق التاريخية النادرة والمهمة؛ على رأسها فيلم بالألوان صور لحظة حرق الأوبرا، وملصق دعاية يُشير إلى بنوار رقم (1) المخصص لـ «حضرة الرئيس الجليل صاحب الدولة سعد باشا زغلول المعظم»، وملصق آخر لحفل أقيم في 16 يناير من عام 1927 يتوقف دخوله «على قيمة ماتجود به أريحية المحسنين»؛ حيث إن ريعه يعود إلى منكوبي الكارثة السورية، بالإضافة إلى صور فوتوغرافية تسجل لحظة زيارة الملك فاروق والرئيس محمد نجيب، وجمال عبد الناصر مع محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان للأوبرا القديمة، التي كانت تتسم بطراز معماري ساحر، وموقع جغرافي متميز للغاية.

الشكل الوثائقي للفيلم لم يمنع مخرجه من الخروج بالكاميرا ليصور «الكاراج»، الذي حل مكان الأوبرا المحترقة، ورصد السيارات المتراصة بدلاً من التماثيل الثمينة والمقتنيات النادرة، وتوظيف الوثائق الفيلمية والفوتوغرافية لدعم شهادات مصادره، واختيار عبارة «أن تكون جاهلاً بما حدث قبل أن تولد يعني أن تظل جاهلاً إلى الأبد»، ففي العبارة دعوة إلى البحث عن الحقيقة، ورفض التسليم بما اعتبرناه تاريخاً. لكنني أعتب على كمال عبد العزيز تخاذله عن التقدم ببلاغ رسمي إلى الأجهزة المختصة، مصحوباً بالفيلم، للتحقيق في ما تضمنه من شهادات واتهامات، تمهيداً للكشف عن الجناة والمتورطين في «حرق أوبرا القاهرة»!