الاقتصاد العالمي «كيفما اتفق»... والمخاطر تظل قائمة!

نشر في 12-04-2013
آخر تحديث 12-04-2013 | 00:01
الولايات المتحدة تُعَد نسبياً الأفضل شكلاً بين الاقتصادات المتقدمة، وتليها اليابان، حيث يعمل اقتصاد آبي على تعزيز الثقة، وتظل منطقة اليورو والمملكة المتحدة غارقتين في الركود، حيث تعمل السياسات النقدية والمالية المحكمة على زيادة الطين بلّة.
 بروجيكت سنديكيت في الأسابيع الأربعة الأخيرة، سافرت إلى صوفيا، وكوالالمبور، ودبي، ولندن، وميلانو، وفرانكفورت، وبرلين، وباريس، وبكين، وطوكيو، واسطنبول، ومختلف أنحاء الولايات المتحدة. ونتيجة لهذا فإنني لم أكن قط بعيداً عن التحديات التي لا تعد ولا تحصى في مواجهة الاقتصاد العالمي.

صحيح أن خطر تفكك منطقة اليورو وخسارة إسبانيا وإيطاليا القدرة على الوصول إلى الأسواق تضاءل بفعل القرار الذي اتخذه البنك المركزي الأوروبي الصيف الماضي بدعم الديون السيادية، ولكن المشاكل الجوهرية التي تواجه الاتحاد النقدي- تدني مستويات النمو المحتمل، والركود المستمر، وفقدان القدرة التنافسية، وكميات كبيرة من الديون الخاصة والعامة- لم تُحَل.

وعلاوة على ذلك فإن الصفقة الكبرى التي أبرمت بين دول قلب منطقة اليورو، والبنك المركزي الأوروبي، والدول الواقعة على أطراف منطقة اليورو- التقشف المؤلم والإصلاحات في مقابل الدعم المالي على نطاق واسع- بدأت تنهار الآن، مع اجتماع الإجهاد الناتج عن التقشف في دول منطقة اليورو الطرفية مع الإجهاد الناتج عن عمليات الإنقاذ في دول القلب مثل ألمانيا وهولندا.

ويتجلى الإجهاد الناتج عن التقشف بوضوح في نجاح القوة المناهضة لمؤسسات السلطة القائمة في الانتخابات الإيطالية الأخيرة؛ واحتجاجات الشوارع الحاشدة في إسبانيا والبرتغال وأماكن أخرى؛ والآن خطة الإنقاذ الخرقاء للبنوك القبرصية، والتي غذت غضباً جماهيرياً هائلاً. وفي الدول الطرفية المختلفة، تكتسب الأحزاب الشعبوية اليسارية واليمينية المزيد من الأرض.

ومن ناحية أخرى، جاء إصرار ألمانيا على فرض الخسائر على دائني البنوك في قبرص كأحدث عَرَض من أعراض الإجهاد في دول القلب. وعلى نحو مماثل أشارت دول أخرى في قلب منطقة اليورو حريصة على الحد من المخاطر التي يتعرض لها دافعو الضرائب لديها إلى أن تحميل الدائنين قسماً من الخسائر هو الطريق إلى المستقبل. وخارج منطقة اليورو، فإنه حتى المملكة المتحدة تناضل من أجل استعادة النمو، نظراً للضرر الناجم عن جهود تقليص العجز والديون، في حين تتصاعد المشاعر المناهضة للتقشف أيضاً في بلغاريا، ورومانيا، والمجر.

وفي الصين، تم انتقال الزعامة بسلاسة، ولكن النموذج الاقتصادي الذي تتبناه البلاد لا يزال، على حد تعبير رئيس الوزراء السابق وين جيا باو الشهير: "غير مستقر، وغير متوازن، وغير منسق، وغير مستدام".

والواقع أن المشاكل التي تواجهها الصين كثيرة: اختلالات التوازن الإقليمي بين المناطق الساحلية والداخلية، وبين المناطق الحضرية والريفية؛ وارتفاع معدل الادخار والاستثمار الثابت، وانخفاض الاستهلاك الخاص؛ وتنامي التفاوت في الدخول والثروات؛ والتدهور البيئي الهائل، مع تهديد تلوث الهواء والمياه والتربة الصحة العامة وسلامة الغذاء.

ويتحدث زعماء البلاد الجدد بجدية عن تعميق الإصلاحات وإعادة التوازن إلى الاقتصاد، ولكنهم ما زالوا حذرين، وحريصين على التدرج، فضلاً عن ميلهم إلى التحفظ بطبيعتهم. وعلاوة على ذلك، فإن القوة التي يتمتع بها أصحاب المصالح الخاصة الذين يعارضون الإصلاح- الشركات المملوكة للدولة، والحكومات المحلية، والمؤسسة العسكرية على سبيل المثال- لم تُكسَر بعد. ونتيجة لهذا فإن الإصلاحات المطلوبة لإعادة التوازن إلى الاقتصاد قد لا تحدث بالسرعة الكافية لمنع الهبوط الحاد عندما يركد الاستثمار بحلول العام المقبل.

في الصين- وأيضاً في روسيا (والبرازيل والهند جزئياً)ـ أصبحت رأسمالية الدولة أكثر رسوخاً، وهو ما لا يبشر بخير بالنسبة إلى النمو. ففي الإجمال كانت إنجازات هذه الدول الأربع (البرازيل وروسيا والهند والصين) موضع حفاوة مبالغ فيها، وقد يكون أداء اقتصادات ناشئة أخرى أفضل في العقد القادم: ماليزيا، والفلبين، وإندونيسيا في آسيا؛ وشيلي، وكولومبيا، وبيرو في أميركا اللاتينية؛ وكازاخستان، وأذربيجان، وبولندا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.

وإلى مسافة أبعد في الشرق، تحاول اليابان تفعيل تجربة اقتصادية جديدة لوقف الانكماش، وتعزيز النمو الاقتصادي، واستعادة ثقة الشركات والمستهلكين. ويتألف "اقتصاد آبي" (شينزو آبي) من عناصر عدة: الحوافز النقدية القوية من قِبَل بنك اليابان المركزي؛ والحوافز المالية هذا العام بهدف إعطاء دفعة قوية للطلب، على أن يعقب ذلك فترة من التقشف المالي في عام 2014 بهدف كبح جماح العجز والديون؛ وزيادة الأجور الاسمية من أجل تعزيز الطلب المحلي؛ والإصلاحات البنيوية الرامية إلى تحرير الاقتصاد من القيود التنظيمية؛ وإبرام اتفاقيات جديدة للتجارة الحرة- بداية بالشراكة عبر الأطلسي- لتعزيز التجارة والإنتاجية.

بيد أن التحديات هائلة، وليس من الواضح ما إذا كان قهر الانكماش ممكناً بالاستعانة بالسياسة النقدية؛ فقد يؤدي التحفيز المالي المفرط وتأجيل التقشف إلى جعل الديون غير مستدامة؛ ومكونات الإصلاح البنيوي في "اقتصاد آبي" غامضة. وعلاوة على ذلك، تؤثر التوترات مع الصين بشأن المطالبات الإقليمية في بحر الصين الشرقي سلباً على التجارة والاستثمار المباشر الأجنبي.

ثم هناك الشرق الأوسط، الذي يظل يشكل قوساً من عدم الاستقرار من المغرب إلى باكستان، فالآن تسعى تركيا- ذات التركيبة السكانية الشابة، واحتمالات النمو المرتفعة، والقطاع الخاص النشط- إلى فرض نفسها كقوة إقليمية. ولكن تركيا تواجه العديد من التحديات الخاصة بها، فسعيها إلى الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي متوقف الآن، في حين تسبب الركود في منطقة اليورو في تثبيط نموها. ويظل عجز الحساب الجاري لديها ضخماً، كما كانت سياستها النقدية مربكة، مع تصادم هدف تعزيز القدرة التنافسية والنمو مع الحاجة إلى السيطرة على التضخم وتجنب التوسع الائتماني المفرط.

فضلاً عن ذلك، وفي حين أصبح التقارب مع إسرائيل أكثر احتمالاً، فإن تركيا تواجه توترات حادة مع سورية وإيران، ويظل لزاماً على حزبها الإسلامي الحاكم أن يثبت قدرته على التعايش مع التقاليد السياسية العلمانية للبلاد.

تُرى هل تحولت أميركا، في هذه البيئة العالمية الهشة، إلى منارة للأمل؟ إن الولايات المتحدة تشهد الآن اتجاهات اقتصادية إيجابية عدة: فقد بدأ قطاع الإسكان يتعافى؛ وستعمل اكتشافات الغاز الصخري والنفط على خفض تكاليف الطاقة وتعزيز القدرة التنافسية؛ وتحسنت عملية خلق فرص العمل؛ كما تعمل تكاليف العمالة المتزايدة الارتفاع في آسيا وقدوم الروبوتات والتشغيل الآلي كركيزة لنهضة الصناعة؛ ويساعد التيسير الكمي العنيف الاقتصاد الحقيقي والأسواق المالية.

ولكن المخاطر تظل قائمة، فلا تزال البطالة وديون الأسر مرتفعة بعناد، وستضرب الإعاقة المالية الناجمة عن ارتفاع الضرائب وخفض الإنفاق النمو بشدة، هذا فضلاً عن اختلال النظام السياسي، مع عرقلة الاستقطاب الحزبي احتمالات التوصل إلى أي تسوية بشأن العجز المالي، والهجرة، وسياسة الطاقة، وغير ذلك من القضايا الأساسية التي تؤثر في النمو المحتمل.

خلاصة القول أن الولايات المتحدة تُعَد نسبياً الأفضل شكلاً بين الاقتصادات المتقدمة، وتليها اليابان، حيث يعمل اقتصاد آبي على تعزيز الثقة، وتظل منطقة اليورو والمملكة المتحدة غارقتين في الركود، حيث تعمل السياسات النقدية والمالية المحكمة على زيادة الطين بلّة، وبين الاقتصادات الناشئة، فإن الصين قد تواجه هبوطاً حاداً بحلول نهاية عام 2014 إذا تم تأجيل الإصلاحات البنيوية الحاسمة، ويتعين على بقية بلدان المجموعة (البرازيل وروسيا والهند) أن تبتعد عن رأسمالية الدولة. وفي حين تُظهِر أسواق ناشئة أخرى في آسيا وأميركا اللاتينية قدراً من الدينامية أعظم من ذلك المشهود في دول المجموعة الأربع، فإن قوة هذه الدول لن تكون كافية لتحويل المد العالمي.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، أستاذ علوم الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة روبيني العالمية للاقتصاد

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top