كان ذلك يوم أربعاء شديد الحرارة، وكان الأهل الذين يغادرون بيوت القرية الطينية مع حلول "سعد السعود" في بدايات فصل الربيع يحشرون مضاربهم بين أشجار البلوط والنبق واللوز البري المر، وكانت ساعات ما قبل المساء كسولة والناس كانوا غادروا بيوت الشعر وانتشروا يتفيأون ظلال الأشجار ويتبادلون الأحاديث التي يتبادلونها في العادة... عن الموسم والأغنام والمرابين والديون والأطفال الذين بحاجة إلى أحذية، والأفاعي التي تصبح أكثر عدوانية في هذا الشهر من السنة.
وفجأة لاح على الطريق الموصل من القرية شخص يركض قليلاً ثم يرمي نفسه على الأرض ويتدحرج قليلاً ثم يعفر رأسه بالتراب ثم ينهض وهو يولول ويلوح بيديه ويصرخ: "لقد قتلوهم... لم يبقوا منهم أحداً لقد قتلوهم... يا حسرتي يا ويلاه".ركضنا في اتجاهه وكنت أول الواصلين وأخذت أسأله وهو يتدحرج على الأرض ويعفر رأسه بالتراب: "ماذا... ماذا... ماذا بك... ما هي المشكلة... هل أهلك هم الذين قتلوا...؟".وسأل آخرون نفس الأسئلة بينما الرجل يواصل التدحرج وتعفير رأسه بالتراب ويحاول أحياناً تمزيق جيب ثوبه وشد شعر رأسه وهو يواصل الصراخ والولولة... ولأن بعضهم نهره وطلب منه أن يتوقف عن الصراخ وأن يقول ما يريد قوله قال وهو يحاول التقاط أنفاسه: لقد قتل الشيوعيون ملوك العراق لقد قتلوهم كلهم... لقد قتلوا أطفالهم ونساءهم... لم يبقوا أحداً لقد سمعت "الراديو" يقول هذا... أقسم بالله أني سمعته يقول هذا".ران الصمت على الجميع، بينما عاد الرجل إلى دحرجة جسده على الأرض وإلى نثر التراب على رأسه ووجهه، ثم ما لبث أن تحول الصمت إلى شهقات مكتومة ثم إلى عويل مرتفع ثم إلى صراخ وشتائم وتضرع إلى الله أن يكون الخبر كاذباً وأن يكون الذي قاله "الراديو" غير صحيح.قال أحدهم وعويل النساء يتعالى ويتسرب صداه عبر الأودية الإفعوانية المجاورة: "بالتأكيد أنه راديو اليهود...لا تصدقوه" وقال آخر: "إنهم قتلوا عبدالله وغازي وها هم يقتلون فيصل... لقد قتلوا الحسين في كربلاء... لقد قتلوهم... لقد قتلوهم".كانت الذكرى السادسة والأربعون لكربلاء الجديدة يوم الأربعاء أمس الأول وكان يوم المجزرة الرابع عشر من يوليو 1958 يوم أربعاء كيوم أمس الأول وأذكر أن أولئك الناس البسطاء أمضوا ليلة تخنقها العبرات ويرعبها عويل النساء وصرخات الأطفال وشهقات الرجال وأذكر أيضاً أن الرايات السوداء ارتفعت فوق بيوت الشعر الأكثر سواداً وان أحاديث الليالي القائظة في ذلك الشهر القائظ كانت كلها عن المذبحة وعن فيصل الثاني الذي قتله الطغاة وهو يقرأ القرآن.انتهت عطلة ذلك العام الحزين الصيفية وعدت إلى مدرستي الداخلية في العبدلي التي كان اسمها "المدرسة الإعدادية" ثم أصبح "كلية فيصل الثاني" ولقد مرت على تلك الجريمة كل هذه الأعوام الطويلة الحالكة السواد التي نزف خلالها العراقيون دماً كما لم ينزف أي شعب آخر والتي أوصلت، حقبة بعد حقبة ومرحلة بعد مرحلة، العراق إلى ما هو عليه الآن.
أخر كلام
من الذاكرة : سعد السعود
10-07-2013