تعود فكرة «المصنع» المشار إليها في العنوان السابق إلى القرن الرابع عشر الميلادي، والذي شهد الإرهاصات الأولى لولادة فن القصة القصيرة، ولم أكن أعلم حتى أيام قليلة مضت أن فن القصة القصيرة يعود بجذوره إلى تلك الحقبة البعيدة، بل إن أقصى ما كنت أتخيله أن بدايات هذا الفن تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، بأسماء أعلامه المعروفين أمثال موباسان، وتشيخوف، ونقولاي جوجول، وإدغار ألامبو.
وكنت أمضيت ساعات طوال في قراءة كل ما يتعلّق بمرجعية القصة القصيرة، وأبرز أشكالها، وخصائصها الفنية، وكذا الحال مع أعلامها البارزين، ذلك بدافع الفضول المعرفي، وربّما نكاية بالرواية التي باتت سيدة المشهد الثقافي بلا منازع، حتى إنها سحبت بساط السحر من تحت أقدام الشعر الذي تحوّل، نثراً، وغموضاً، ومعاني ركيكة- إن جاء موزونا- إلا ما ندر.بالعودة إلى «مصنع الأكاذيب» يروي الدكتور رشاد رشدي في كتابه «فن القصة القصيرة» الصادر 1959، أن أولى محاولات كتابة القصة القصيرة ظهرت في القرن الرابع عشر في روما داخل حجرة فسيحة من حجرات قصر الفاتيكان، كانوا يُطلقون عليها اسم «مصنع الأكاذيب» اعتاد أن يتردد عليها في المساء نفر من سكرتيري البابا وأصدقائهم للّهو والتسلية، وتبادل الأخبار، وفي مصنع الأكاذيب هذا كانت تخترع أو تقص الكثير من النوادر الطريفة عن رجال ونساء إيطاليا، بل عن البابا نفسه، وكان من أكثر رواد مصنع الأكاذيب مثابرة وأخصبهم رجل غريب الأطوار اسمه «بوتشيو» اشتغل نصف حياته سكرتيراً للبابا، تزوّج وهو في السبعين فتاة في الخامسة عشرة، وبدأ بهذا الزواج حياته الأدبية، فدوّن النوادر التي قصها وسمعها في مصنع الأكاذيب، فأعطاها بذلك شكلا أدبيا أسماه «الفاشيتيا»، تداولته بعده أجيال عديدة من الكتاب.ومن أطرف ما يروي «بوتشيو» من مصنع الأكاذيب قوله:«كنت في جمع الأصدقاء، نناقش في ما يجب أن يوقع من عقوبات على الزوجات الخائنات فقال أحدهم (...) كان ثمة رجل من بولونيا، يشك في سلوك زوجته، وبينما هو يؤنبها على خياناتها المتكررة، وكانت هي مثل غيرها من النساء في مثل هذه الأحوال تنكر كل شيء، علا صوتُهما، وأخيراً صاح الزوج جيوفانا، جيوفانا، إني لن أضربك، ولن أشهّر بك، ولكني قد عزمت على أمر انتقم به لنفسي، وهو أن أعيش معك، وأجعلك تلدين طفلا بعد طفل إلى أن يمتلئ هذا البيت بالأطفال، ثم أتركه وأهجرك». فضحك الجميع لهذا النوع الغريب من العقاب. وكما نرى فإن هذه القصة تحوي الجوانب الأساسية لما تتضمنه حكايات «مصنع الأكاذيب، بكل سذاجتها، وملامحها الأساسية لحقبة القرن الرابع عشر». وتعود أهمية كتاب «فن القصة القصيرة» إلى البعد الزمني إذ إنه صادر في وقت مبكر، كما أنه يقدم تسلسلا زمنيا لتطوّر القصة القصيرة، مع نماذج تعليمية شارحة، تروق -فيما أعتقد- لطلبة العلم، لما تحويه من شرح مبسط لخصائص القصة القصيرة، وأبرز الملامح الفنية، والسمات التي اصطُلح عليها لاحقا، وتناقلتها المؤسسات التعليمية، لذا فإن دكتور رشدي ذاته، وهو أستاذ لمادة الأدب الإنكليزي، لا يفضل إطلاق مفهوم القصة القصيرة على «مصنع الأكاذيب»، إذ إن مروياته لا تتضمن من خصائص القصة القصيرة سوى الحجم فقط، وتدور في أغلبيتها حول مسائل اجتماعية وطرائف تتعلّق بالحياة اليومية لسكان روما، وليس مستغرباً أن نقرأ قصصاً كثيرة عن الخيانات الزوجية، وطبائع الناس في حياتهم الأسرية، ومحاولة «ترويض» النساء للرجال، أو العكس، وهي كلها تشكل مادة خصبة لخيال الناس البسطاء في تلك الحقبة، لذا أرى من الضروري الإشارة إلى تلك الحقبة في حال التأريخ لفن القصة القصيرة، تماما كما نفعل مع أدبنا العربي لما يتعلّق بالإشارة إلى البدايات التي لم تظهر إلا في النصف الأول من القرن العشرين، حتى انتهى بنا المطاف إلى منتصفه، وبزوغ نجم يوسف إدريس الذي أسس لهذا الفن على المستوى العربي، ليس تنظيريا، وإنما عمليا من خلال مجموعاته القصصية، ونصوصه المنشورة في الصحافة.(يتبع)
توابل - ثقافات
«مصنع الأكاذيب»... إرهاصات القصة القصيرة (1)
01-09-2013