لا أعتقد أن هناك كياناً سياسياً وبشرياً نال ذلك الكم من متناقضات الآراء والمواقف حوله مثل أميركا، وأعني بها آراءنا ومواقفنا العربية عامة والمحلية على وجه الخصوص. فنحن إزاء أميركا عادة ما يصيبنا شيء من الارتباك ونحن نعاين الواقع السياسي بأحداثه المعاصرة وانعكاساته، فأميركا من جهة كانت وراء خلاصنا من احتلال غاشم، وما زلنا نرتبط معها بمعاهدات الحماية والدفاع. واللجوء إلى أميركا يظل بالنسبة للإقليم ككل الخيار الأخير حين تتعقد الأمور ويحتاج الوضع إلى ضربة عسكرية أو قرار حاسم من منبر الأمم المتحدة، أو حتى لحلحلة مفاوضات تلعب بها أميركا دورها المنتظر والرئيسي.

Ad

 من جهة أخرى، نحن نحرص على إظهار امتعاضنا من أميركا وندبج بها هجائيات لا منتهية كونها حامية حمى إسرائيل وحارستها الأزلية ، وكونها تضع (الجهاد!) في سلة واحدة وتسميه إرهاباً وتعلن عليه الحرب! في الوقت الذي لا نعرف نحن ماذا نسميه وكيف نقننه بعد أن انعدمت الرؤية واختلطت المعايير! ونحن نتوجس من أميركا أيضاً بسبب ترويجها للعولمة والديمقراطية، بينما لا نزال نحرص على خصوصيتنا وهويتنا، ولاتزال شعوب منطقتنا تتعثر في ثوب الديمقراطية وتكبو على وجهها. وأخيراً وليس آخراً نحن ضحايا لا حول لها ولا قوة وأهداف سهلة لمؤامرات أميركا التي لا تنفكّ تحيكها لنا، لنأتي ونقع في الفخ الذي نُصب لنا مراراً وتكراراً، رغم علمنا بكونها مؤامرات ودسائس مبيّتة!

 وعلى الجانب النفسي والوجداني نجد أنفسنا ننطوي على تقدير خفيّ ومستكن (عادة لا نحبذ أن يراه أحد)، حين نفضّل أميركا قِبلة لطلبة العلم من أبنائنا، ومشفىً راقياً لمرضانا، ومستراحاً سياحياً لمواطنينا، بل ووطناً مأمولاً لمهاجرينا ممن ضاقت بهم أوطانهم فأصبحت أميركا هي حلمهم الأغلى وطموحهم الأسمى. بل المضحك أنه غالباً ما تنفرج أساريرنا إذا ماعلمنا أن فلاناً من مواطنينا تزوج من أميركية أو علانة/ مواطنتنا تزوجت من أميركي، وربما ازدادت أساريرنا انفراجاً إذا ما رأينا كم يحسن أبناؤهم الرطانة باللكنة الأميركية دون أن تشوبهم شائبة!

 ورغم ذلك يظل خطابنا الإعلامي والثقافي عامة يظهر الجانب الآخر من الشخصية الانفصامية التي عُرفنا بها، حتى لكأن الكاتب أو المثقف منّا لا يكون وطنياً أو ثورياً أو ليبرالياً أو إسلامياً أو مفكراً لامعاً - أو ما شئت من تصنيفات أيديولوجية – إلا إذا أظهر عداءً سافراً لأميركا وأمعن في هجاء سياستها ومواقفها وشخصيتها الاعتبارية. ولكن – ويا للعجب -  سرعان ما تكتشف أن أحد هؤلاء أو جلهم له وشيجة مباشرة مع أميركا، كأن تكون أمه أو زوجته أميركية، أو يتلقى أبناؤه العلم هناك، أو له شخصياً مصلحة أو مؤسسة اقتصادية ذات صلة بأميركا يعتاش عليها، والأدهى من ذلك أن يكون هو من المقيمين فيها أو من أصحاب اللجوء السياسي الذين هيأت لهم أميركا الأمان والرزق!  وحينها تدرك أن ما يقوله هؤلاء ويكتبونه ليس سوى خطاب يُدبّج للاستهلاك المحلي، ولصناعة ذلك الوهم حول مواقف غير حقيقية وغير أصيلة لا ندري ماذا يُراد بها؟

 إذا كانت السياسة ومتغيراتها هي المسؤول الأول عن هذا الإرباك الثقافي والنفسي، وإذا كانت أجيال من شعوبنا قد تعايشت مع هذا اللون من الانفصام غير المريح، فهل هناك ثمة أمل في صناعة خطاب أكثر عقلانية وواقعية نقدمه للجيل الجديد من الأطفال والشبيبة؟