ينظر كثير من الباحثين إلى الوثائق الدستورية العربية باعتبارها وعوداً مرائية بالحقوق والحريات والممارسات الديمقراطية يقصد من ورائها خداع مواطني الشعوب العربية والمراقبين الأجانب ومحاولة إخفاء ملامح سلطة الحكم المطلق وتمويهها خلف ستار دستوري مخملي زاهي الألوان. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للدساتير التي يتم كتابتها في الظروف الاعتيادية، فما بالنا بالأوضاع الاستثنائية والحرجة التي جرى فيها كتابة الدستور المصري الاول للجمهورية الثانية في مصر، لذا فإن الأمر استلزم قراءة متأنية ومتعمقة لنصوص ذلك الدستور الذي يحلو لكثيرين تسميته بـ«دستور الإخوان»، وهو ما قام به الخبير الدستوري الدكتور محمد طه عليوة في دراسة أجراها للدستور المصري الجديد 2012، وتنشرها الجريدة على أربع حلقات، واستعرض فيها الظروف والملابسات التي جرى فيها صياغة الدستور وإعداده وسلبياته وإيجابياته والتداعيات والمخاطر التي انطوت عليه بعض الصياغات التي فتحت الباب لوجود مساحات مطاطية رمادية يمكن ملئها مستقبلاً بنصوص تلاقي أهواء تيارات إسلامية بعينها. 

Ad

وفي ختام دراسته يخصص الخبير الدستوري د. عليوة حلقته الأخيرة لوضع تصوراته لمقترحات وتعديلات يتعين إجراؤها لتلافي أوجه القصور والعوار التي شابت صياغة دستور «الإخوان».

  جاء الدستور الأول للجمهورية الثانية في مصر على غير ما كنّا نتمنى، فقد استأثر تيار الإسلام السياسي تحت قيادة "الإخوان المسلمين" بتشكيل الجمعية التأسيسية التي وضعته في خضم صراع محتدم بين "الإخوان" المسيطرين على منصب الرئاسة وكل مؤسسات الدولة المستعصية على الانصياع لهم وبقية التيارات السياسية المنضوية تحت لواء "جبهة الإنقاذ"، وقد تعهد رئيس الجمهورية المعزول عشية التصويت على الدستور وغداته، بتبني التعديلات التي تتفق عليها القوى السياسية وطرحها على البرلمان بعد اكتماله، وسواء أكان صادقاً في تعهده ذاك أو مناوراً، يظل تحليل مضمون الدستور وإبراز مزاياه ونواقصه، أمراً له أهميته في صياغة التعديلات الدستورية المطروحة على جدول الأعمال، وأول ما ينبغي ملاحظته في هذا الصدد أنه لم يعد في عالم صياغة الدساتير من خلق جديد، إلا أن يكون اختراعاً غير مُجرّب، أو صياغة لشعارات سياسية لا ترقى إلى مصاف القواعد التي تدار على أساسها الدول. 

لذلك كان غريباً ما ظهر مبكراً في الجدل حول دستور 1971 بعد ثورة يناير من أن ذاك الدستور قد أصبح "مرقعاً" و"مهلهلاً" من كثرة ما أدخل عليه من تعديلات، وأننا نريد "دستوراً جديداً تماماً"، وما شاع من تصريحات من بعض أعضاء الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور 2012 ومؤيديها من فرقاء السياسة من أنها تضع دستوراً غير مسبوق.

 

الخداع والتمويه

 

يبدو أن فقر الفكر، الناجم عن سنوات الجمود وتجريف "الطبقة" السياسية التي ميزت عهد الرئيس السابق "مبارك"، قد طبع بطابعه الجدل حول الدستور الجديد، سواء من ناحية صُيَّاغه ومؤيديه أو من ناحية نقاده ومعارضيه. 

فقد انصب نقد مشروع الدستور، في أغلبه الأعم، على المنهج الإقصائي في اختيار اللجنة التي وضعته، واعتماد منطق التغلب بدلاً من التوافق في وضعه، والمسارعة إلى الموافقة على الصياغة النهائية في ليلة وضحاها (وهذا كله صحيح)، أما نقد المضمون فقد جاء معتمداً على المناقشات في المجرد والمطلق بدلاً من العيني والملموس، وعلى تأويلات الألفاظ وافتراض النوايا السيئة، أكثر مما اعتمد على بيان دلالات النصوص وكشف الآليات التي يفترض أن تدار على أساسها الدولة في أحكام ذلك الدستور، وأصبحنا بين فريقين من "النصوصيين" في حين أن موازين القوى ورسوخ القيم الديمقراطية في وعي الجماهير هما المعول عليهما وليست النصوص، إذ يجب التمييز بين وجود الدستور كنص، من جانب، والحكم الدستوري، بمعنى وجود المفاهيم الحقوقية (كاحترام حقوق الإنسان وخضوع الدولة للقانون) والترتيبات المؤسسية التي تقيد سلطة الدولة وتحدد وسائل ممارستها، من جانب آخر. 

وينظر كثير من الباحثين إلى الوثائق الدستورية في العالم العربي باعتبارها وعداً مرائياً بالحقوق والحريات والعمليات الديمقراطية، يقصد به خداع المواطنين والمراقبين الأجانب، وتمويه سلطة الحكم المطلقة، ضمن جملة من أهداف أخرى، منها أن الدساتير تعتبر من المستلزمات الطبيعية للسيادة الوطنية، خصوصاً عند الاستقلال أو التغيير الثوري، وأن الدساتير قد تستهدف إعلان أيديولوجيا أساسية، ولذلك تتضمن أجزاءً مطولة تصف غايات الدولة الأساسية وأيديولوجيتها دون أن يكون لها وزن قانوني، يُخاطب بها المواطنون وجزء من الدولة، إذ تُعلم القيادة السياسية للبلاد أجهزتها البيروقراطية بتوجهها. وأخيراً تفيد الدساتير في جعل حدود السلطة واضحة، فمن الضروري رسم خطوط واضحة للبنية الأساسية وسلاسل القيادة، وصولاً إلى إقامة أنظمة سياسية أكثر كفاءة وتنظيماً، ومسؤولة مالياً دون أن يعني ذلك تقييد أفعال القيادات العليا.

وفي هذا الإطار يقول كاتب آخر إن التجارب الفاشلة للدول الحديثة تدل على الهوة القائمة بين القانون الدستوري والواقع السياسي، ويبدو القانون الدستوري، كما كان بالنسبة للطبقات الأوروبية المضطهدة في القرن التاسع عشر، مجرد أسطورة فريدة من نوعها.

ويصدق هذا الوصف على الدساتير المصرية في ظل الدولة الشمولية التي سادت الجمهورية الأولى، فهل أفلح دستور 2012 في تجاوز هذا الواقع؟

 

التبويب المحكم

 

من حيث الشكل والتبويب: جاء الدستور الجديد في (236) مادة موزعة على خمسة أبواب الباب الأول بعنوان: "مقومات الدولة والمجتمع"، وفيه ثلاثة فصول أولها للمقومات السياسية، والثاني للمقومات الاجتماعية والأخلاقية، والثالث للمقومات الاقتصادية. 

الباب الثاني بعنوان: "الحقوق والحريات" وفيه أربعة فصول؛ أولها الحقوق الشخصية، والثاني للحقوق المدنية والسياسية، والثالث للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والرابع لضمانات الحقوق والحريات. 

والباب الثالث بعنوان: "السلطات العامة"؛ خصص فصله الأول للسلطة التشريعية وفيه فروع ثلاثة: أولها للأحكام المشتركة، والثاني لمجلس النواب، والثالث لمجلس الشورى، أما الفصل الثاني فقد خصص للسلطة التنفيذية وفيه فرعان: رئيس الجمهورية والحكومة، والفصل الثالث للسلطة القضائية، والرابع لنظام الإدارة المحلية، والخامس للأمن القومي والدفاع. 

والباب الرابع بعنوان: "الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية"، وفيه خمسة فصول، الأول للأحكام المشتركة، والثاني للأجهزة الرقابية، والثالث للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والرابع للمفوضية العامة للانتخابات، والخامس للهيئات المستقلة. 

والباب الخامس والأخير للأحكام الختامية والانتقالية وفيه ثلاثة فصول أولها لتعديل الدستور، والثاني أحكام عامة، والثالث أحكام انتقالية.

والحق أن تبويب الدستور الجديد أفضل من سابقه، وحمل تجديدات أبرزها حذف الفصل الخاص برئيس الدولة في دستور 1971 والاكتفاء بالفرع الخاص به في فصل السلطة التنفيذية، وثانيها نقل الفصل الخاص بمجلس الشورى في دستور 1971، الذي كان ينظم وظيفته الاستشارية في ما يتعلق بالتشريع، وإشرافه على الصحافة المملوكة للدولة، إلى الفصل الخاص بالسلطة التشريعية، بعد أن جعله الدستور الجديد مجلساً تشريعياً كامل الصلاحيات وإحدى غرفتي البرلمان، وحذف الباب الخاص بالصحافة، ونقل النصوص الخاصة به، مع تعديلات جذرية فيها إلى المادتين 48 و49 من الفصل الثاني من باب الحقوق والحريات وإنشاء هيئتين مستقلتين للصحافة والإعلام (المادتين 215 و216)، ضمن الباب الرابع المستحدث الخاص بالهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية.

ومن العسير تناول كل نصوص الدستور الجديد في دراسة موجزة كهذه ومن ثم سينصب تناولنا بشكل أساسي على النصوص التي تحدد هوية الدولة (الفصل الأول من الباب الأول)، وبعض المواد المتعلقة بالحريات والحقوق المدنية والسياسية وضمانات الحقوق والحريات (الواردة في الباب الثاني)، وتنظيم السلطات العامة (الباب الثالث)، والأحكام الانتقالية (الفصل الثالث من الباب الخامس).

 

الباب الأول: «الدولة والمجتمع»

 

أما بالنسبة لإضفاء سمات دينية على مقومات الدولة والمجتمع: فقد جاء الباب الأول من الدستور المعنون "الدولة والمجتمع"، جامعاً للبابين الأولين من دستور 1971، مقسماً إياهما إلى ثلاثة فصول. وجاء فصله الأول المعنون "المقومات السياسية" معادلاً للباب الأول من دستور 1971، في سبع مواد. 

وبينما كانت المادة الأولى في دستور 1971 أكثر إيجازاً في تعريف الدولة "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة"، نصت المادة الأولى من دستور 2012 على أن "جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ونظامها ديمقراطي. والشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية، ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الإفريقية وبامتداده الآسيوي ويشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية"، وفي ذلك إطناب لا محل له في نصوص الدستور.

فالقول بأن مصر دولة مستقلة يعني أنها ذات سيادة، ومصر لم تستقل بالأمس لكي يقال في الدستور أنها دولة مستقلة، وإذا جاز القول بشأن أي دولة في العالم بأنها "موحدة لا تقبل التجزئة"، فمصر أغنى الدول عن قول ذلك في دستورها، لأن مصر أقدم دولة موحدة في التاريخ بحكم طبيعتها، وحتى في أحوال ضعف الجهاز البيروقراطي وانهياره لم تفقد مصر صفة الدولة الموحدة التي لا تقبل التجزئة.

 

مخاوف وترضية

 

القول بأن شعب مصر جزء من الأمتين العربية والإسلامية، هو تعبير جميل وصحيح، وفيه الغناء عما ورد في المادة الثانية في كل من الدستورين من أن الإسلام دين الدولة، لأن الدولة الحديثة (باعتبارها مؤسسة) لا دين لها ولكن شعبها أو غالبيته هو الذي يصح القول بانه يعتنق ديناً.

أما المادة الثانية في الدستور فقد ظلت كما هي بنصها في الدستورين "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وقد جاء إبقاء المادة على حالها بعد جدال طويل بين الاتجاهات الإسلامية الرامية إلى حذف كلمة "مبادئ" لتكون الشريعة على عمومها مصدرا للتشريع، أو إضافة كلمة أحكام الشريعة بدلاً عن مبادئ أو إلى جوارها، وبين اتجاهات أخرى اعترضت على ذلك ومخاوف أبدتها الكنيسة ودعاة الدولة المدنية، ودعوة البعض إلى حذف المادة. 

على كل حال فقد تم إرضاء جميع الأطراف بإبقاء المادة على حالها وإرضاء المسيحيين واليهود بإضافة المادة الثالثة، وإرضاء الإسلاميين بإضافة المادتين (4) الخاصة بالأزهر و(219) في الفصل الثاني من الباب الخامس المعنون "أحكام عامة" والتي نصت على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنّة والجماعة". وبعد أن كانت أحكام المحكمة الدستورية العليا قد استقرت على اختصاصها بتحديد ما يعتبر من مبادئ الشريعة الإسلامية، وعلى أن تلك المبادئ تقتصر على النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وعلى أن نص الدستور على أن الشريعة المصدر الأساسي للتشريع هو خطاب موجه للمشرع فيما يضعه مستقبلاً من قوانين. جاء نص المادة (219) ليفرض على المحكمة- وعلى غيرها- قيداً، فقهاء الشريعة هم الأقدر على بيان حدوده، فيمثلون على هذا النحو نوعاً من المرجعية التي تعلو المرجعية الدستورية. وهذا النص، وبعض النصوص الأخرى، هي مساحات رمادية تركت ليتم ملئها في ما بعد بأحكام الشريعة حسبما يراها ويفسرها التيار الذي يتسيد المجلس التشريعي، مع المراهنة على الزمن في تغيير تركيب المحكمة الدستورية، بخروج الأكبر سناً وشغل مقاعدها بقضاة من أنصار ذلك التيار، فتكتمل بذلك المنظومة الأيديولوجية في الدستور. وكان ذلك وراء مشروعات قوانين السلطة القضائية التي راجت في الفترة الأخيرة.

 

دور الأزهر

 

أما المادة الثالثة (ولا نظير لها في دستور 1971 ولا الدساتير السابقة عليه)، فقد وضعت لطمأنة أصحاب العقائد الدينية الأخرى، ونصت على أن "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم والروحية"، وهي مادة لا داعي لها سوى العامل النفسي المشار إليه، لأن ذلك أمر مقرر في الشريعة الإسلامية والقوانين المصرية منذ زمن سحيق.

ونصت المادة الرابعة (مستحدثة) على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم اللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. وتكفل الدولة الاعتمادات الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، يحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء وكل ذلك على النحو الذي ينظمه القانون".

وهذه المادة، مثلها مثل المادة الثالثة، أضيفت في مطلع مواد الدستور، لإعطاء الانطباع بإنزال الدين المنزلة التي يستحقها، وتكريس المرجعية الدينية دستورياً.

والحال أن ما نصت عليه المادة وأكثر منه فيما يتعلق بتوصيف دور الأزهر موجود في القانون رقم (103) لسنة 1961 بتنظيم شؤون الأزهر، عدا أن القانون المذكور يظهر جلياً فيه أن الأزهر مؤسسة تابعة للدولة الناصرية الشمولية. والمادة المضافة، عدا عن توكيدها لاستقلال الأزهر بشؤونه، تضمنت التأكيد على عدم قابلية شيخه للعزل (وهو أمر متعارف عليه ولم يكن هناك من حاكم يجرؤ على عزل شيخ الأزهر)، وإعادة هيئة كبار العلماء فيه بعد أن كان القانون المذكور قد استغنى عنها بمجمع البحوث الإسلامية. والمادة مع ذلك حرصت على عدم انفراد هيئة كبار العلماء بالبت في شؤون الشريعة الإسلامية بقولها "يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء"، ليس حرصاً على أن يكون لجهات القضاء وغيرها حريتها في البحث والاجتهاد (وهو مباح في الإسلام لكل قادر عليه) وإنما كانعكاس للعلاقة التاريخية السيئة بين التيارات الدينية المناهضة للدولة في مصر، والأزهر الذي كان دوماً في كنف الدولة ومؤازراً لها. واستقلال الأزهر والمؤسسات الدينية عموماً عن الدولة كما ورد في النص أمر لازم واستقلال الدولة عن المؤسسات الدينية أمر أكثر لزوماً.