فجر يوم جديد: وفاة مراسل حربي
ننكر عليه حقه ونظلمه كثيراً عندما نكتفي بالسطور القليلة التي احتلت ركناً صغيراً في الصحف المصرية والمواقع الإلكترونية، تنعي رحيله عن عمر يناهز 68 عاماً، عقب إصابته بأزمة قلبية. فالباحث والمخرج د. مدكور ثابت في حاجة إلى دراسة متأنية تنصفه وتكشف دوره العظيم، وحجم إنجازاته الكبيرة، على صعيد السينما المصرية؛ فالرجل الذي ولد في محافظة سوهاج عام 1945، وعُين معيداً في المعهد العالي للسينما عام 1965، عقب حصوله على تقدير الامتياز في الإخراج، لم يستسلم لظروف «السوق»، التي حالت دونه وتحقيق حلمه في تقديم الفيلم العظيم الذي يليق بطموحه وثقافته، وإلمامه بمختلف نظريات السينما العالمية، واكتفى بفيلمه الذي يحمل عنوان «حكاية الأصل والصورة في إخراج قصة نجيب محفوظ المسماة صورة»، واحتل الجزء الثالث من فيلم «صور ممنوعة»، الذي أخرج جزأيه الآخرين أشرف فهمي ومحمد عبد العزيز في تجربتهما الأولى لإخراج الفيلم الروائي الطويل، وتفرغ بعده للسينما التسجيلية والوثائقية إلى جانب تدريسه تاريخ السينما العالمية وبناء السيناريو وحرفية الإخراج السينمائي والإشراف على ورش ومشاريع التخرج لطلبة المعهد وحلقات البحث لطلبة الدراسات العليا.أسقط د. ثابت من حساباته تجربته التي تحمل عنوان «الولد الغبي»، ولفرط ما أراد نسيانها لم يكن يفوت مناسبة من دون القول إنها «علمته درساً قاسياً في ما يتعلق بالثمن الذي يدفعه المخرج في حال تقديم تنازلات فنية»، لكنه كان شديد الاتساق مع نفسه عندما اتخذ قراراً بألا يكررها. ومنذ عام 1975، الذي شهد الفشل الذريع لذلك «الولد الغبي»، وضع شروطاً قاسية للعودة إلى إخراج الفيلم الروائي الطويل، وظل متشبثاً بمشروعه «ثلج فوق صدور ساخنة»، الذي لم ير النور، لأن منتجاً لم يوافق على دعمه، فما كان منه سوى أن اتجه إلى نشره في سلسلة بعنوان «من أدب السرد السينمائي» لم يمهله القدر لاستكمالها بمشروعاته المجهضة: «عازف الكرباج»، «السيد محظوظ المصري»، «عشاق الفلنكات» و{فلوس فلوس»، وتفرغ لإخراج الأفلام التسجيلية : «على أرض سيناء»، «الشمندورة والتمساح»، «السماكين في قطر» و{مذكرات بدر»، بالإضافة إلى سلسلة أفلام تعليمية عن تطوير الري في مصر و{سحر الوثائق في تاريخ مصر من نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين». لكن يبقى فيلمه الأخير «سحر ما فات في كنوز المرئيات» (مئة عام من تاريخ مصر) دليلاً حياً على فهمه الصحيح لدور السينما في تنوير المجتمع، وأهميتها في الحفاظ على هوية الأمم.
«المناصب تذهب لمن يزهدها»... مقولة تنطبق إلى حد كبير على الدكتور مدكور ثابت، الذي تولى منصب رئيس المركز القومي للسينما ورئيس أكاديمية الفنون ولكن الصدمة تملكته فور إعلان فاروق حسني وزير الثقافة السابق قرار اختياره لمنصب رئيس الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، وخُيل إليه، كما قال لي، أن المطلوب إحراجه و{حرقه»؛ فقد كان ينظر إلى نفسه بوصفه أحد المثقفين المناصرين لحرية الفن والإبداع، وقبوله المنصب يعني ضلوعه في جرائم مصادرة الإبداع، لكنه عاد، بعد أن هدأ قليلاً وتخلص من غضبه وانفعاله، ووافق على المنصب بعدما أخذ على عاتقه أن يكون سبباً في نسف «الرقابة» وتدميرها، ووضع ملامح مشروعه الطموح التي يجعل منها جهازاً «يحفظ ويحمي حقوق الملكية الفكرية، ويكتفي بتصنيف الأعمال طبقاً للتصنيف العمري»، لكن «البيروقراطية» و{الروتين الحكومي» حالا دون تنفيذ المشروع الذي مات بالسكتة القلبية عقب خروج د. ثابت من منصبه.«مجلس شورى النقاد» حلمُ آخر تحول إلى كابوس في مسيرة د. مدكور ثابت؛ فقد رأى ألا يحتكر، والرقباء، قرار الحكم على الأفلام السينمائية، واختار مجموعة من النقاد تشاركهم القرار، لكن التجربة قوبلت بانتقاد وهجوم كبيرين بعدما ساد اعتقاد بأنه يتخذ من «النقاد» حائط صد، وأداة فاعلة ومؤثرة يُحصن بها قرارات المنع والمصادرة.الأمر الذي لا يقبل الشك أن شخصيتي «الباحث» و{المُنظر» طغتا كثيراً على د. مدكور ثابت، بالدرجة التي تراجع معها دوره كمخرج سينمائي ظلمته الظروف والمناخ الإنتاجي الرادخ تحت قبضة شروط صارمة لا يمكن الخروج عنها أو الانقلاب عليها، لكنه أبى أن يستسلم لمصيره، وناضل (بمعنى الكلمة) ليضع بصمته على عقول وأفئدة أجيال متعاقبة رأت فيه «الأستاذ» و{الأخ الكبير»، ولم يكتف من جانبه بهذا الدور وإنما راح ينقل خبراته وثقافته ووعيه عبر مؤلفاته، وأهمها «موسوعة نجيب محفوظ والسينما (1947-2000)»، ومشاركاته الفاعلة في لجان تحكيم المهرجانات السينمائية داخل مصر وخارجها، وعضوية لجان السينما وقراءة السيناريو، وكأنه لم ينس أنه أمضى خمس سنوات من عمره مراسلاً حربياً على طول جبهة القنال؛ خصوصاً أثناء حرب الاستنزاف.