لمن شاهد فيلم Eat, Pray And love من بطولة النجمة جوليا روبرتس، ويتمحور حول امرأة تملك مقومات الحياة العصرية وزوج محب، ورغم ذلك تشعر بأنها تعاني خواءً روحانياً، لا تعرف ماذا تريد من هذه الحياة. انفصلت عن زوجها وقررت البحث عن ذاتها، فكانت الهند إحدى الوجهات التي قصدتها... ربما عانت أثناء هذه الرحلة إلا أنها ساعدتها في التعرف إلى نفسها.

Ad

لم تمر زيارتنا إلى ملجأ الأيتام في أحد أحياء الهند الفقيرة مرور الكرام على وقع روحي، ما رأيته جعلني أصرّ على أن نصبغ لهم الجدران ونوفر لهم أغطية للأسرة، أردت شيئاً يبهجهم، ولأننا كنا جميعاً محملين بشراشف جديدة ومخدات وكثير من الحاجيات، كوننا خططنا للمكوث لدى أسرة مستضيفة في بيت نسكنه، كما ذكرت في الحلقة الأولى، لكن انتقالنا إلى فندق، جعلنا لا نحتاج هذه الاغراض التي ذهبت، بحمد الله، إلى هؤلاء الأيتام، وتبرعنا بإرسال من يصبغ جدرانهم، ولم نستطع الذهاب لأن الطريق كان خطراً ومليئاً بالمصاعب، وفي اليوم الثاني،وتوجهنا إلى إحدى المدارس في حين توجه الفريق الطبي إلى المركز الطبي.

كانت الليلة الثالثة على التوالي التي أصحو فيها مبكراً من دون أن أكتفي من النوم، لكن حين أرى مدى تفاني سارة التميمي، منظمة هذه الرحلة، أخجل من تعبي الجسدي، فأتناول إفطاري سريعاً وأحتسي قهوتي على عجل، حتى لا أتأخر عن البقية.

وأثناء انتظاري مجيء بقية المجموعة، كانت لي دردشة مع السيد أنانتا كومار، مؤسس فرع منظمة (IVHQ) في الهند، سألته عن كيفية إنشاء هذه المنظمة وما الأسباب التي دفعته إلى ذلك والمشاكل التي واجهته.

قال السيد كومار إنه في عام 2002 شارك في برنامج توعوي في تايلند يبين كيفية التطوع وقدرته على الإنقاذ، وتعلم كيف ينشئ منظمة أو ينضم إلى مؤسسة، فتعاون مع منظمة (IVHQ) التي لها عدة فروع في العالم، على أن يؤسس فرعاً لها في الهند، مشيراً إلى أنه البرنامج الأول للتطوع في دلهي.

وأوضح كومار أن ما يميز برنامجه أنه {الأرخص}، فهو يوفر المسكن والطعام لمدة اسبوعين بمبلغ لا يتعدى 300 دولار، أي ما يقارب 90 ديناراً، ويرجع ذلك إلى حرصه على مشاركة أكبر كمّ من الأشخاص في هذا البرنامج لتوفير المساعدة والخير لهؤلاء الفقراء.

وعن الصعوبات التي واجهته، ذكر أن مشاكل الاتصال وصعوبة الطقس وتوقعات الناس أن يحقق برنامجهم الكمال كانت تحديات فعلية.

أضاف أنه في كل عام يشارك 4 آلاف متطوع من أنحاء العالم في الهند، مبيناً أنه قد لا ينقذ العالم، لكنه قد يساعد في انقاذ كثير من الأطفال والمرضى، وهذا بحدّ ذاته يستحق الجهود التي يبذلونها هم والمتطوعون.

عبرت له عن رغبتي بالتبرّع بمبلغ لصبغ غرف الأطفال في الملجأ، وقال لي إنهم يفضلون استلام التبرعات على هيئة أغراض يحتاجها الأطفال تم شراؤها من قبل، حتى لا يُستخدم المال بطريقة سيئة، وكان له ما أراد.

بعدها توجهنا إلى أحد المدارس حيث يمشي الباص في الطريق المرصف، بعد ذلك تبدأ على الدوام رحلة المشي، كانت القذارة والمستنقعات أخف من أمس، ما جعلنا نشعر بأن هذه الطريق تبدو ممهدة بالورود إن قورنت بالطريق التي سلكناها إلى الملجأ.

قدرة على الابتسامة

المبهج في الهند، رغم القذارة وحياة الناس بين مستنقعات المجاري وكل هذه الروائح الكريهة التي يعيشون وسطها، أن لديهم قدرة غريبة على الابتسامة والفرح فقط لأنه يرون وجوهاً جديدة. ابتهج الأطفال بوجودنا ونحن نصورهم ونأخذ معهم صوراً تذكارية، وكانوا يقتربون منا وهم سعداء.

يبدو الفصل بحجم دورة المياه لأي بيت كويتي، تتكون المدرسة من غرفتين: واحدة عليها رسومات لأسد وأشجار، والثانية بدت أكثر تعاسة بصبغ مقشر وسقف مكسور في بعض الاجزاء، ولكن سعادة أحد القيّمين في المدرسة بوجود جهاز لفلترة المياه كانت غير عادية، وكان فخوراً به.

درّس المتطوعون الأطفال الأرقام والحروف الإنكليزية، وفي حين كنت أشاهد وألاحظ، أخبرني المنظم أن ثمة مدرسة أخرى قريبة في القرية فقلت له: {خذني لأراها!}

توجهنا سعود السند، أحد المتطوعين وهو مدرّس في الكويت، ومريم الجيران وهي متطوعه معنا، وأنا إلى المدرسة الأخرى. طبعاً، في الطريق، تعبر على أشياء تعتبر قمامة ومجاري وحيوانات نافقة وخنازير تتمشى بثقل وتأكل من خيرات القمامة في الهند.

للحيوان احترام أكثر من البشر في هذا البلد، فالأبقار تمشي في الشوارع والناس تنتظرها تعبر، وباقي الحيوانات تعيش بشكل أفضل من الإنسان، ذلك أن الحيوان يتمشى حراً طليقاً في الهند، مهما كان نوعه. المهم وصلنا إلى المدرسة وكانت لطلبة أصغر تبدو أعمارهم دون الثالثة، أو من شدة نحولهم بدوا أصغر من أعمارهم.

الصف عبارة عن غرفة واحدة والمدرسة سيدة قد تبلغ من العمر خمسين عاماً، بؤس وفقر على سحنة الاطفال، وبين هذه الجموع، لفت نظري طفل يتمتع بعينين جميلتين، أكثر ما استوقفني فيهما ذلك الحزن الذي سكن عينه وتربع في نظرته، كنا نصوره ويبدو غير مبال، عكس بقية الأطفال.

وفي حوار مع مؤسس المدرسة ميتلش كومار قال لي إنه بدأ التدريس حين كان في الثانية عشرة من عمره. لم تكن في قريته الفقيرة مدارس، وبنى أبوه المدرسة عام 1980 بمساعدة صديقة. لأن قريتهم فقيرة جداً والتعليم فيها منعدم، يستقبل أكبر كمّ من الطلبة، 52 طالباً في الصباح أعمارهم من 3 الى 6 سنوات، و50 طالباً تتراوح أعمارهم من 6 الى 14 سنة في الفترة المسائية. كذلك يحاول، قدر استطاعته، توفير غرفة للكمبيوتر وهي قيد الإنشاء، كان سعيداً وفخوراً بها، رغم أنها تحتوي على جهاز كمبيوتر واحد.

ومن باب حرصه على نشر التعليم، فقد جعله في الصباح مجانياً وفي المساء بمبلغ رمزي، ولكن مما شاهدت، استنتجت أن ما يقدم من تعليم متواضع جداً جداً، لا يتعدى الأرقام وبعض الأحرف الإنكليزية واللغة الهندية.

سألت سعود السند لحظتها: {ما سبب قيامك بهذه الرحلة؟} أجابني: {أردت أن أعرف كيف هو التدريس عندهم}. كنت أود أن أساعد بما أملك من علم، ولكني صدمت بأنه، رغم قلة إمكاناتهم، لديهم رغبة بالتعلم يريدون وذلك، إنما نظراً إلى نقص الماديات لا يمكنهم القيام بذلك بشكل سليم، عكس ما يحدث مع طلبتنا في الكويت!

وأعرب سعود عن تأثره لكون حجم مدرسة كاملة أصغر من حمامات المدارس في الكويت، مبيناً أن أكثر ما أعجبه في أطفال الهند أنهم يلعبون ويضحكون ويتحدون مصاعب الحياة بضحكة، لذا علينا أن نؤمن بألا يوجد شيء أسمه مستحيل.

قررنا أن نصبغ جدران أحد الغرف في المدرسة الأولى، وأعطينا مسؤولاً فيها مبلغا لإصلاح سقف الفصل، وقلنا له سنحضر لنراه، لينجز عمله بأسرع وقت. في هذه الاثناء كان فريق المتطوعين الطبي في المركز الطبي في المنطقة الفقيرة جداً، توجهنا إليهم لنقلهم، وكانت الطريق وعرة، وحين وصلنا وجدنا متطوعينا من الفريق الطبي بحالة ارهاق، ولكن سعداء بما قاموا به من مساعدة، وطلبت من سارة أن أحضر في يوم للتعرف إلى ما يقومون به من عمل، لا سيما أنني لا أجد نفسي في التدريس، رحبت بالفكرة وكان لي ما أردت بعدها بيومين.

صدم المتطوعون عندما أدركوا أن أغلب الأمراض المتفشية في هذا المكان المتواضع ترجع إلى أسباب تافهة، من بينها: عدم ارتداء {نعال} أو بسبب فضلات الحيوانات وانتشارها، أو عدم تناولهم بعض الأدوية لعدم توافر القدرة المالية لديهم رغم رخص ثمنها!

وحده التلقيح قد ينقذ حياة معظم هؤلاء الأطفال، ولكنهم، ببساطة، لا يملكون المال الكافي لهذا، ما قد يسبب بإصاباتهم بأمراض مزمنة أو الموت بعمر صغير.

 أتى اليوم الذي كنت سأشاهد فيه المركز الصحي المجاني واكتشاف قصته؟

مركز صحّي

أسس الدكتور بارفات كومار مركزاً صحياً صغيراً مجانياً للكشف على أهل القرية الفقيرة جداً، في محاولة منه لتقديم المساعدة بما يستطيع، وتدير زوجته المدرسة التي سبق أن زرناها. كحال العديد من الهنود، قرر كومار تكريس جزء من مدخوله وجهوده للفقراء، وكأن هذا الأمر طبيعي هناك، بعكسنا تماماً، إذ نعتبر من يقوم بهذه الأعمال ملاك بهيئة إنسان، لم نتعلم أن نتشارك بأي شيء يدخل جيوبنا مع هذا الفقير، الحمدالله الذي جعل الزكاة من أركان الإسلام وإلا لعشنا حياتنا من دون حتى المشاركة.

كان المركز بحجم بيت صغير جداً، وغرفة المراجعه صغيرة تحتوي على أهم الأدوات، يقوم بوظيفة المستوصف في الكويت، وقالت لي سارة: {أنت هنا ليس لأنك صحافيه فقط ترصدين وتقابلين، ستساعديننا بالكشف على السكّر!} فأجبتها: {عفوا سارة لست طبيبة، ولكني أعدك بأني سأحاول}.

وبعد محاولات عدة فاشلة، بتّ أكثر تطوراً وأصبحت أقيس السكّر وأساعدهم في عمل الفحص على المرضى.

وأثناء ذلك شاهدت (البريعصى) بلون أسود على الحائط، للمرة الولى أعي أنه من الممكن أن يكون أسود، ومشى تحت كراسينا فأصبنا بهلع خفيف حتى لا نثير استغرابهم، وكلباً ضالاً بزاوية المكان وذباباً كثيفاً حولنا.

استغربت كيف يخدم هذا المركز، وهو بأدني حالات النظافة والتعقيم، المئات من الفقراء، ونحن نملك أحسن المستشفيات ولكن نحتاج إلى واسطة للوصول إلى دورنا للفحص!

ومن هنا قررنا أن نقوم بحملة للتبرع لهم بأسرع وقت، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي (توتير وانستغرام) نشرنا رسائل لاستقبال النقود عبر حساباتنا الشخصية أو عبر ويسترن يونيون، وكان أي مبلغ يمكن أن يساعد في إنقاذ طفل، عبر حصوله على لقاحات لازمة. وخلال أيام جمعنا ما يقارب 1700 دينار كويتي، تم بها شراء 90 حقيبة دراسية مع الزي المدرسي والأحذية وفراشي الأسنان وأدوات النظافة، مراوح وإضاءة للمدرسة وأجهزة لفحص السكّر للمستشفى، لقاحات ضرورية تكفي لـ 100 طفل، كذلك تم تقديم 120 ألف روبية لمرضى القلب من الأطفال، وشراء أدوية تكفي للمركز الطبي لمدة سنة كاملة.

أما المدرسة فصبغنا جدرانها بأنفسنا، ورسمت المتطوعه أمينة المطوع، لحبها للرسم، الأمل والأشجار والورود في الحائط، ولم تكن تشكي بل تحرص على الذهاب يومياً لمتابعة الرسم على الحائط بتفانٍ أذهلني!

أكثر ما أبهجني أننا غيرنا القالب التقليدي الذي يعرفة الأجانب عن الكويتيين، لا سيما أن فكرتهم كانت مختلفة قبل حضورنا، إذ قال لنا المنظمون والدكتور المشرف إنهم لم يتحمسوا كثيراً حين سمعوا أن ثمة متطوعين من الكويت، لأننا شعب مدلل ولن نلتزم بجدول التطوع، ولكن التزامنا ومساهمتنا بالتبرعات كانا بمثابة {صدمة جميلة} لهم ولنا طبعاً، لأننا شعرنا بلذة العطاء للآخر هذا الذي لا نعرفه.

بعد وصولنا إلى الكويت أُبلغت بأن ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح يرغب بالالتقاء بنا، وبالفعل توجهنا إلى ديوان سموه فأثلج صدرنا بإشادته بعملنا الإنساني وبمجموعة (MAD) التطوعية، لأن ما قمنا به كان بمجهود شخصي بحت، وأصر على أن نكمل طريقنا في هذا المجال، مبيناً أننا مثلنا الكويت بأحسن صورة.

كان هذا أحسن تكريم للمتطوعين والمتطوعات. ونحن هناك وسط ظروف كالحة، وأثناء مشاهدتنا لأقسى مشاهد الفقر واليتم والمرض، لم نكن نتوقع أن في الكويت سيعرف أحد عن تجربتنا، إلا أن هذا التكريم وإصرار الناس على أن نحكي تجربتنا شجعاني لأكتب عنها.

وكما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: {ازرع جميلاً ولو في غير موضعه فلن يضيع جميل أينما زرع}.

الإنسانية الحقة لا تعرف تميزاً، لم نسأل عن دين هذا وذاك، ولم نأبه للون أو شكل، كنا نود مساعدة الإنسان الذي ولد بظروف صعبة وفقر مدقع لينعم ببعض الخدمات.

وحين يوجه سؤال إلي: {لماذا قمت بهذه الرحلة؟} أجيب: {كنت أبحث عن انسانيتي فوجدتها في الهند!}