إن الأميركيين مغرمون بالتحدث بنبرة التبجيل عن "حكمة الآباء المؤسسين"- الرجال الذين كتبوا دستور الولايات المتحدة، ولكن الطريقة التي تمكن بها مجلس النواب من إرغام الحكومة- أو على الأقل خدماتها غير الأساسية- على التوقف تجعل الآباء المؤسسين يبدون كالحمقى.
إن السبب الأساسي وراء الأزمة المالية يكمن في إيمان الآباء المؤسسين بمبدأ الفصل بين السلطات، والحق أن هذا المبدأ كان دوماً مثيراً للجدال فلسفياً.كان توماس هوبس يعارض في كتاباته خلال الحرب الأهلية الإنكليزية الفصل بين السلطات، انطلاقاً من إيمانه بأن وجود حكومة مركزية قوية وموحدة هو العامل الوحيد الكفيل بضمان السلام. وكان جون لوك من جانبه أكثر اهتماماً بالحد من السلطة الملكية، وكان ينظر إلى الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية باعتباره وسيلة لتحقيق هذه الغاية.بعد كفاحهم ضد ما اعتبروه طغيان الملك جورج الثالث، كان الثوريون الأميركيون راغبين في ضمان القضاء على إمكانية نشوء مثل هذا الطغيان في الدولة الجديدة التي كانوا معنيين بالتأسيس لها. ولتحقيق هذه الغاية، دونوا مبدأ الفصل بين السلطات في دستورها.ونتيجة لهذا فإن رئيس الولايات المتحدة أو أي مسؤول وزاري لا يستطيع أن يلتحق بعضوية المجلس التشريعي، ولا يمكن عزل أي منهم من منصبه بأغلبية تشريعية. وفي الوقت نفسه، تسيطر السلطة التشريعية على الميزانية وقدرة الحكومة على الاقتراض، وبالطبع نستطيع أن نتبين هنا بوضوح إمكانية الوصول إلى طريق مسدود.قد نتصور أن الآباء المؤسسين يستحقون الفضل في حقيقة مفادها أن الحكومة الأميركية لم تتمكن قط من التحول إلى الاستبداد، ولكن نفس الشيء من الممكن أن يُقال عن حكومة بريطانيا، رغم غياب الفصل الدستوري بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل رغم غياب أي دستور مكتوب كلياً.كما لم تتحول المستعمرات البريطانية السابقة مثل أستراليا ونيوزيلندا وكندا إلى أنظمة استبدادية، رغم أن رئيس الوزراء والمسؤولين الوزاريين في كل هذه البلدان، وعلى النقيض من الحال في الولايات المتحدة، أعضاء في الهيئة التشريعية، ولا تستطيع الحكومة أن تستمر في السلطة إلا إذا ظلت قادرة على الاحتفاظ بثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب في البرلمان (في حالة نيوزيلندا يتألف البرلمان من مجلس تشريعي وحيد). وإذا رفضت الهيئة التشريعية منح السلطة التنفيذية المال الذي تحتاج إليه لإدارة الحكومة، فإن الحكومة تسقط ويتم إحلال حكومة جديدة في محلها، ربما لتيسير الأعمال إلى أن يتم إجراء انتخابات مبكرة.ونظراً للخلل الجوهري في الدستور الأميركي، فإن الأزمة الحالية ليست بعيدة الاحتمال على الإطلاق، بل إن الغريب في الأمر هو أن مثل هذه المآزق بين الهيئتين التشريعية والتنفيذية لم تسفر عن نوبات أكثر تكراراً من الفوضى والاضطرابات. وهذا في حد ذاته يُعَد دليلاً على الحس السليم لدى أغلب المشرعين الأميركيين وعلى استعدادهم لتقديم التنازلات من أجل تجنب إلحاق أضرار خطيرة بالبلد الذي يخدمونه، حتى الآن على الأقل.إن إدخال أي تعديل دستوري في الولايات المتحدة يستلزم التصديق عليه من قِبَل ثلاثة أرباع الولايات الأميركية، وهو ما يعني غياب أي احتمال واقعي في الوقت الحاضر لتغيير الدستور بالقدر الكافي للتغلب على الخلل الذي جعل اندلاع الأزمة الحالية ممكناً. ولكن هناك عامل مختلف يساهم في تأجيج الطبيعة الحزبية المفرطة التي تتسم بها سياسات الولايات المتحدة اليوم ومن الممكن تغييره من دون الاضطرار إلى تعديل الدستور. وبوسعنا أن نفهم هذه المشكلة على أفضل نحو ممكن إذا سألنا أنفسنا لماذا لا يشعر العديد من أعضاء الحزب الجمهوري الذين صوتوا في مجلس النواب لمصلحة إجبار الحكومة على تعطيل عملها بالقلق من أن تتسبب تكتيكاتهم- التي سوف تلحق الضرر بالعديد من ناخبيهم بلا أدنى شك- في تغذية ردود فعل انتخابية عكسية؟الإجابة عن هذا التساؤل هي أن الدوائر التي يتم انتخاب أعضاء مجلس النواب منها مقسمة بشكل مشوه إلى الحد الذي قد يعتبره المواطنون في أغلب الديمقراطيات الأخرى منافياً للعقل. ويحدث هذا لأن المسؤولية عن ترسيم حدود الدوائر الانتخابية تقع عموماً على عاتق المجالس التشريعية في الولايات، حيث يتمتع الحزب المسيطر بمطلق الحرية في رسمها لمصلحته، وفي أيامنا هذه، يسيطر الجمهوريون على أغلب المجالس التشريعية في الولايات، وهو ما يمكنهم من الفوز بالأغلبية بمقاعد مجلس النواب رغم افتقارهم إلى الدعم من أغلبية الأميركيين؛ ففي انتخابات الكونغرس في عام 2012 حصل مرشحو الحزب الديمقراطي على مستوى البلاد بالكامل على أصوات أعلى مما حصل عليه الجمهوريون بنحو 1.4%.الواقع أن هذا التقسيم المشوه للدوائر الانتخابية في الولايات المتحدة يعني ما هو أكثر من مجرد الحقيقة الواضحة بأن مجلس النواب لا يمثل السكان ككل، فهو يعني أيضاً أن العديد من النواب الحاليين ليسوا معرضين لخطر خسارة مقاعدهم في أي انتخابات. ويأتي الخطر الحقيقي- خصوصاً في الحزب الجمهوري- من أولئك الأكثر ميلاً إلى اليمين من النواب الحاليين، فالظهور بمظهر المعتدل يعني خطر الهزيمة، ليس على يد الناخبين ككل بل في مسابقات ترشيح الأعضاء عن الحزب الجمهوري، حيث يضمن لهم الإقبال الواسع من جانب الأعضاء الملتزمين الأكثر تشدداً وحماسة قدرة غير متناسبة على التحكم في النتائج.قد يتخيل المرء أن أصحاب العقول الراجحة في كل من الحزبين قد تتوصل إلى تسوية استناداً إلى فهم مفاده أنه من مصلحة أميركا أن يتم إنشاء لجنة محايدة تتولى رسم حدود عادلة لكل الدوائر الانتخابية في مجلس النواب. ولا يوجد مانع دستوري يحول دون تنفيذ هذا الترتيب، ولكن في البيئة الأميركية الحالية التي تتسم بالاستقطاب السياسي الشديد، يكاد يكون التوصل إلى مثل هذا الترتيب غير مرجح بنفس القدر الذي يبدو معه من المستبعد إدخال تعديل دستوري يمنع مجلس النواب من حرمان الحكومة من الأموال التي تحتاج إليها لكي تحكم.* بيتر سنغر | Peter Singer ، أستاذ أخلاق الطب الحيوي في جامعة برينستون، وأستاذ فخري بجامعة ملبورن. ومن بين مؤلفاته كتاب "تحرير الحيوان، وكتاب "أخلاق عملية"، وكتاب "عالم واحد"، وكتاب "الحياة التي يمكنك إنقاذها".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
الآباء المؤسسون والأزمة المالية
11-10-2013