المجانين يصنعون الفرق
ماذا لو ساد العقل والمنطق هذا العالم؟ وماذا لو أمسك العقلاء بزمام الأمور وسار النظام الأخلاقي والسلوكي على الصراط المستقيم، لا سمح الله،؟! أي عالم باهت وبارد ووقور سيكون عليه هذا العالم حين يخلو من الدهشة والطرافة، ويخلو من تلك الابتسامات المرتبكة والنظرات الحادة الواسعة إزاء كل فعل مجنون؟ للمجانين كشوفهم المذهلة وشجاعتهم النادرة ومغامراتهم الجريئة، ولهم ابداعاتهم وفضاءاتهم التي لا تعرف خطوطاً حمراء ولا قوانين وضعية ولا شرائع، ما دام القلم مرفوعاً عنهم والسماء أمامهم لا تُحد!
التاريخ الإنساني يحفل بتلك الشخصيات التي صنعت الفرق، حين حادت عن اللياقة والكياسة والعقل والمنطق، وتم إدراجها حسب أسس علم النفس تحت مفهوم (الشخصية المختلة): سايكوباث، الوسواس، جنون العظمة، النرجسية، الصرع، الفصام، وغيرها من مصطلحات تبرر كل فعل خارج عن دائرة الأعراف السلوكية (العاقلة). وعليه فعباس بن فرناس والأخوان رايت كانوا ضمن القائمة أعلاه حين أقلعوا نحو الطيران بالريش والأجنحة غير آبهين بالمصير الذي ينتظرهم حين يسقطون من شاهق وتُدقّ أعناقهم، أو بالأحرى غير مدركين للعاقبة حين انتفت لديهم حاسة الخوف والحذر التي هي من عدة (العقلاء جداً)! أما حارق روما وهتلر وموسيليني وصدام حسين والقذافي وأمثالهم من طغاة ومعتوهي العالم فالفرق الذي يصنعونه دراماتيكي ومأساوي وباهظ الثمن، ولكن للعجب يظلون في حالة يقين من أن وجودهم ضروري لإصلاح خلل العالم ورسمه كما يجب أن يكون: مجرد حفنة من طين ودم يشكلونه حسب مخيلة غرائبية مهووسة بالتملك والعناد. ولعل إعجاب بن لادن المنقطع النظير بنفسه بعد تفجير البرجين المنكوبين وسقوط آلاف القتلى مثال على اتقاد حاسة الجنون حين تلتذ التذاذاً بإعادة هيكلة العالم على أنقاض الخراب والدمار! وهناك نوع ظريف من المجانين من الذين يتطوعون لتقديم حياتهم، ذات لحظة تجلٍّ، على مذبحة الظرف الراهن، كالعشاق الرومانسيين الذين يلقون بأنفسهم تحت القطارات ومن فوق الجسور، أو كالمضربين عن الطعام، أو المتدلين من رقابهم من مراوح السقف، وأشباههم في الوسيلة والظروف. وهؤلاء قد يراهنون على إحداث الصدمة لمن حولهم، وقد ينطوون على أمنية الانقاذ في آخر لحظة، وقد يراهنون على إحداث تغيير ما وإلقاء حجر ثقيل في مياههم الراكدة كما فعل البوعزيزي حين أشعل في نفسه النار ومات حرقاً. ويبقى أن أكثر المجانين روعة هم الفنانون والمبدعون من رسامين وأدباء وشعراء وموسيقيين. بل الغريب أن هناك علاقة طردية لافتة بين درجة الجنون ودرجة الإبداع، فكلما زادت أطوارهم غرابة وجنوناً زادت درجة تأثيرهم وأصالتهم الفنية. فلولا تلك اللوثة والصرع لدى فان جوخ لما أبدع تلك اللوحات المشتعلة بالهياج والمضرجة بالألوان الصاخبة. ولولا غرابة الأطوار عند سلفادور دالي وأعراض الفصام عند بيكاسو لما صنعا التجريدية المعبرة عن الأحلام الغرائبية والعوالم الشاطحة التي غدت مدرسة في الفن التشكيلي. أما بيتهوفن وهمنغواي وتولستوي فلعل نهاياتهم المأساوية تعطي ملمحاً واضحاً عن مضمون حياة لم يكن التوازن العقلي إحدى ركائزها المكينة. بل ماذا نقول عن حيوات شعراء وأدباء مثل الشابي ونازك الملائكة وفهد العسكر وخليل حاوي ومي زيادة، حيوات كانت تغرف من نهر الكآبة والسوداوية وتساؤلات اللاجدوى، لتتهافت في نهاية المطاف إلى الموت المبكر أو الانتحار أو الجنون!يقيناً أن ظاهرة الجنون المدهش أو الظريف أو المأساوي ليس حكراً على المشاهير، وإنما ظاهرة حياتية مطّردة نراها في ما حولنا وبين ظهرانينا. وقد ندهش أو نتندر أو نشفق، ولكن في النهاية لا نملك إلا أن نقول إن المجانين لا يصنعون فرقاً فقط، وإنما يعطون للحياة نكهتها وألوانها.