لعل استشراف ما سبق قوله في ما يتعلق بخطاب المغايرة والاختلاف الذي بثه شوقي عبر مسرحية (مجنون ليلى)، يجعل المتأمِّل يدرك أن تمرير مثل هذا الخطاب الموغل في الجنوح والتطرّف كان ممكناً وسهلاً، وذلك من خلال مسوّغين أحسَنَ الشاعر توظيفهما واللعب عليهما بمهارة. المسوّغ الأول الركون إلى «الجنون» لدى بطل مسرحيته قيس بن الملوح، وهي ضالةٌ يستطيع أن يتجاوز بها الشاعر - كما سبق أن قلنا - الخطوط الحمراء ويتحدى أعتى التابوهات والمحرمات «العقلانية». ثم ان شخصية – المجنون شخصية جاهزة تمت صناعتها وتسويقها تراثياً ولن يتحمل شوقي وزر خلقها أو ابتداعها، وعليه فليس هناك شبهة أو مؤاخذة يمكن أن تلحق به.

Ad

  أما المسوّغ الثاني الذي أحسن الشاعر العزف عليه والذي ظهر في المسرحية، فهو إحياء فكرة «شيطان الشعر» وتوظيف هذا الشيطان كقناع ووسيلة تُنجي من الملامة والذنب كالجنون تماماً. فما يقوله قيس من تعريض بليلى من خلال التشبيب والغزل لا يتحمّل قائلُه وزرَه وعواقبَه كما يعلن صراحةً، لأن تلك الأقوال ما كانت إلّا من إلهام شيطانه وشطحات ذلك الشيطان وليست صنع إرادة الشاعر ووعيه! ثم ان «شيطان الشعر» ليس سوى تركة ثقافية من تركات التراث أيضاً ولن يتحمّل شوقي – بداهةً – ما يصدر عنها من أضاليل!

بهذا الخطاب التبريري الموارب أمكن لشاعر شديد التحفّظ والرصانة وشديد التمسك بالتقاليد الاجتماعية والفنية كشوقي أن يمرر ما يشاء من النزعات المكبوتة ورغبات العقل الباطن، وأن يُسجّل ضمن اسهاماته الشعرية هذا الهامش المستخفي والمسكوت عنه من حياته النفسية والعقلية.

 أما الإضافة في التقنيات الفنية فنجدها في الخروج عن القاموس اللغوي والبلاغي المعهود في لغة شوقي، فمسرحية «مجنون ليلى» تنتقي لنفسها قاموساً لغوياً مختلفاً  ليس فيه تلك «اللغة الشوقية» المعهودة في المديح والرثاء والشأن العام. صحيح أن اللغة المبذولة أمامنا في نص المسرحية تكاد تكون لغةً (منسوخة) من قاموس قيس بن الملوّح ومتحرية لخطاب الشعر العذري ومفرداته وبيئته وأجوائه، ولكن رغم ذلك  يمكن للمتأمّل أن يلمح وراء هذا الحجاب الشفيف روحاً تتطلّع إلى ما هو أبعد من هيكل اللغة الخارجي الماثل بمفرداته وصوره وأخيلته. فحديث شوقي عن «الخيام»

و»قبس النار» و»جبل التوباد» و»رعي الغنم»...إلخ  يكاد يكون حديثاً عن «رموز»

و «إيماءات» أكثر منه إعادة تظهير أو برمجة لماضٍ مُنقضٍ.

وهي «رموز» و»إيماءات» تومض وتشير إلى ما هو أبعد وأنأى في تصورنا من المتعلّقات الزمانية والمكانية وشخوصها الأصمّ في مواقع زمانها ومكانها. وعليه فإن لغة «الشعر العذري» المبثوثة في النصوص المعنية ليست محاكاةً ونَسْخاً ساذجين بقدر ما هي جسرٌ أو قارب حالم للعبور نحو ضفة أخرى  يصعب الوصول إليها بغير هذه «الرموز» الكثيفة الموحية  و»الإشارات» الوجدانية البليغة.

 أما لغة المسرحية فتكاد تغاير وتناقض كل تلك البلاغة النمطية التي عُرفت في شعر شوقي، حين نقع على لغة شافّة صافية تتسم باللطف والعذوبة وليونة الإيقاع، لغة ذات حفيف يشبه حفيف الأجنحة أو مرور الحرير. ولعل ما يعزّز هذا الغنى الجمالي في ظاهر الألفاظ وتنغيماتها ما انطوت عليه من كثافة العاطفة وشجنها وإفصاحها عن الموغل والمستكنّ من المشاعر، وانتحابها أمام الآمال الهاربة والأشواق المستحيلة. يأتي هذا الحشد من الفيض الوجداني مقابلاً مضاداً للرزانة والرصانة والمظهر المرمري البارد الذي عُرف عن شخصية شوقي الشعرية والإنسانية.

  وتأتي سمات أخرى في معرض التضاد والمقابلة، مثل حلول الهمس والنجوى مقابل الجهورية والخطابية، وتكريس السلاسة والعذوبة في مواجهة الرصانة والفحولة، ثم أخيراً وليس آخراً الاحتفاء بالتقطيع العروضي القصير وإيراد البحور السهلة أو المهملة كالرجز والرمل والمتقارب في مقابل نصوصه العصماء من بحور الطويل والبسيط والكامل. وكلها انزياحات شديدة الحضور في هذا النموذج النادر من شعر شوقي ونعني به مسرحية  «مجنون ليلى».

وكخاتمة نهائية لهذا العرض نقول إن تلك الخلفيات الظرفية المبثوثة في مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي كالمتعلقات التاريخية والبيئية والتراثية، ساعدت الشاعر كثيراً في عملية التخفي والتقنُّع والتوسُّل بالشخصيات والأحداث والأزياء والأقوال الماضوية وأعطته جواز مرور شرعياً للتعبير عن دواخله وأهوائه ونزعاته النفسية دون تحفّظ. وقد كانت تلك الحِيَل الفنية المتعلّقة بتوظيف حكايات التراث خير معين لشوقي للخروج من «متن» التقاليد  والأسوار الاجتماعية والفنية والخطاب الشعري المطروح، نحو «هامش» الذات وغواياتها وحرياتها المتمناة.