القراءات القرآنية... بين المستشرقين والنّحاة
صدر أخيراً عن {منشورات الجمل} كتاب {القراءات القرآنية بين المستشرقين والنّحاة} للدكتور حازم سليمان الحلي. وفيه يوضح المؤلف موقف بعض المستشرقين والنحاة من القراءات القرآنية.
يقع كتاب {القراءات القرآنية بين المستشرقين والنّحاة} في ثلاثة فصول. اشتمل الأول على نشأة القراءات وأوجه اختلافها وأسباب الاختلاف وتعدد القراءات مع ذكر مقياس القراءة الصحيحة. أما الفصل الثاني فقد اشتمل على موقف المستشرقين من القراءات والتصدي لهم ورد دعواهم. وفي الفصل الثالث بيان موثق بالنصوص لموقف نحاة البصرة ونحاة الكوفة.
نشأة القراءاتيؤكد المؤلف حازم سليمان الحلي أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على النبي للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما. أما القراءات فإنها علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة ولا بد فيها من التلقي والمشافهة لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. وقد نزل القرآن الكريم على النبي نجوماً متفرقة في ثلاث وعشرين سنة بلهجة قريش، وكانت القبائل على لهجات شتى، فقد شق على سائر القبائل قراءة القرآن بلهجة قريش، وزعموا أن الرخصة صدرت عن النبي بأن تقرأ كل أمة بلغتهم وما جرت عليه عاداتهم وذلك للتيسير.اختلاف القراءاتيشير حازم الحلي أن أوجه الاختلاف في القراءات حصرت في ما يلي: الاختلاف في حركات الكلمة من غير تغيير معنى الكلمة وصورتها. الاختلاف في الحركات مع تغيير المعنى لا الصورة. الاختلاف في حروف الكلمة وتغيير المعنى مع بقاء الصورة. الاختلاف في الحروف بما يغير الصورة ولا يغير المعنى. الاختلاف في الحروف بما يغير المعنى والصورة. الاختلاف في التقديم والتأخير. والاختلاف في الزيادة والنقصان.يلفت الكاتب أن علماء القراءات وضعوا ضابطاً للقراءة الصحيحة المقبولة هي: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح سندها.موقف المستشرقين يتوقف الحلي عند موقف المستشرقين، فيرى أن لهم جهوداً كبيرة في التراث العربي ولهم في الدراسات القرآنية أعمال جليلة، إلا أنه لا يجب أخذ كل أقوالهم مسلمة بل لا بد من الوقوف منها على حذر، لأن فهم القرآن بدقائقه قد يتعسر على جملة منهم لعمق لغة القرآن وأساليبه البلاغية مما يجعل غير العربي مهما أوتي من مقدرة يتعثر أحياناً في الفهم الأصيل للنص القرآني. أما في القراءات القرآنية خصوصاً فإن لبعض المستشرقين آراء على غاية الخطورة فكان همهم التدليل على أن الاختلاف في القراءات القرآنية إنما كان عن هوى من القراء لا عن توثيق ودراية.فالقراءات موجودة قبل ظهور النقط والشكل لا بعدهما كما يذهب إلى ذلك المستشرقة، لأن الوحي قد انقطع وإنما القراءات ظهرت حين عجز بعض القبائل العربية من غير قريش أن تقرأ القرآن بلهجة قريش فأراد الله أن يجعل لهم متسعاً ومتصرفاً في الحركات فصدرت الرخصة على لسان نبيه وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، والقراءة عندهم سنة متبعة.والاختلاف مع المستشرقين خلاف في المنهج، فالمبدأ عند علمائنا في جميع منابع الثقافة الإسلامية هو إثباتها عن طريق الرواية والبحث في إثباتها ومتنها ووضعوا لذلك مقاييس دقيقة. أما المستشرقون فلا يعترفون بغير المتن وكل همهم امتحان النص امتحاناً لا يقوم على قواعد منهجية. وعلى هذا فإنهم لم يستطيعوا إثبات كون القراءات القرآنية عن هوى من القراء ومن غير رخصة صادرة عن النبي، فلو جاز للناس تغيير شيء من القرآن عما تلقوه من الرسول لكان بعض القرآن من كلام البشر لا كلام الله لبطلت صفته الإعجازية التي لا تزال قائمة.موقف النّحاة من القراءاتيفيد الحلي أن القرآن أعلى مراتب السماع لأنه أوثق نص عربي وصل إلينا وقد تكفل الله بحفظه. ولذلك لم يختلف النحاة واللغويون في قبوله لأنه أوثق النصوص العربية وأرقاها غير أنهم اختلفوا واشتجرت آراؤهم في القراءات بين راغب فيها يقبلها ويحتج عليها، وبين راغب عنها يرفضها وإن كانت من القراءات السبع، متعصب للقاعدة التي قعدها فإن اختلفت القراءة مع القاعدة وصف القراءة بالقبح أو الخطأ أو الضعف أو اللحن أو الشذوذ.على أن نقد النحاة للقراء هو نقد للرواية وليس نقداً للقراءة بعد صحة سندها كأن يكون في القارئ سهو أو غفلة فسيبويه إمام النحاة يقول: {القراءة لا تخالف لأنها السنة}، ومع ذلك نجد من النحاة واللغويين من ينسب بعض القراء إلى التوهم والغلط وهذا الموقف يصدر من كل نحوي متعصب للقاعدة أو للقياس سواء كان بصرياً أو كوفياً: فإنهم تجرأوا على تخطئة بعض القراء الذين يخالفون قواعدهم. وهؤلاء القراء أولى بالصحة من النحاة لأنهم يعتمدون في قراءاتهم على السماع وهم ثقة، فالقراء أهل تلق وعرض فهم أدق في نقلهم اللغة.موقف سيبويهوقف سيبويه من القراءات موقفاً معتدلاً، فقد كان يحترم القراءات وعنده أن القراءة لا تخالف لأنها السنة، ولم يخطئ قراءة ولم يُغلط قارئاً إلا في موضع واحد. وقد لوحظ أن سيبيوه حينما يعقب على القراءات بما يشعر بعدم موافقته إياها لا يزيد على القول: وهذه لغة ضعيفة، أو هي لغة قليلة فهو لا يوجه الضعف إلى القراءة مباشرة إنما يحمل القراءة على إحدى لغات العرب الموصوفة بالضعف أو بالقلة ومع ذلك فهي لغة تصح القراءة بها.