1- يقول معظم علماء الاجتماع السياسي، إنه لا يوجد في الحضارة العربية، أو في علم السياسة العربية، أي مفهوم للدولة، وإن الدولة في التاريخ السياسي العربي الكلاسيكي، ارتبطت بالعائلة المالكة للحكم كبني أمية، وبني العباس، الذين حكموا كخلفاء طيلة ستة قرون (661- 1258م). فيقال الدولة الأموية، والدولة العباسية، ولم يختلف الأمر لدى العثمانيين الذين حكموا طيلة سبعة قرون (1281- 1924م) فيقال الدولة العثمانية، كذلك الحال الآن في بعض أنحاء العالم العربي.

Ad

2- وكان أبرز مظهر من مظاهر الخلافة الإسلامية الكلاسيكية الشورى، وهي نظام ليس من اختراع الإسلام، إنما وُجد قبل الإسلام بقرون عدة، حيث كان شيوخ العرب يجتمعون للبحث والتشاور في قضاياهم، وقد عرفت مكة المكرمة التجارية "دار الندوة" التي كانت بمنزلة "برلمان العرب" قبل الإسلام، ولكنه ليس برلماناً سياسياً إنما كان برلماناً تجارياً، أو قل "غرفة تجارية" بمفهوم اليوم. وظيفتها حل المنازعات، وعقد الصفقات التجارية، كما لم يكن للشعب رأي في اختيار الخليفة الكلاسيكي بدءاً من الخليفة الراشدي الأول أبي بكر الصديق، وانتهاءً بالسلطان العثماني الأخير عبدالمجيد بن عبدالعزيز، وكان الترشيح، يتم لشخص واحد لا منافس له (ما عدا ما تمَّ في خلافة عثمان بن عفان، حيث تمَّ ترشيح ستة، وفاز الخليفة عثمان). ومن هنا، فلم يكن للشعب- عامة- رأي فيمن يحكمهم، إما خوفاً، وإما صدوداً. ونتيجة لتباعد الأقطار، وصعوبة المواصلات والاتصالات، قرر الفقهاء، أنه لا لزوم للشعب لكي يُنتخب الخليفة انتخاباً مباشراً من قبل الشعب، كما كانت الحال عند الإغريق قبل آلاف السنين، ورأينا في العصر الحديث، كيف يتم أيضاً- في معظم الأحيان- ترشيح شخص واحد فقط، وفي بعض الأحيان لا نائب له، فيما لو لم يكن المُلك ملكياً وراثياً.

 3- فلماذا إذن، كل هذا "الجهاد المقدس" لإعادة الخلافة- كما يطالب الآن بعض الأصوليين والسلفيين- والخلافة لم تغادرنا لحظة واحدة منذ عام 632م إلى الآن؟

ألا يصْدُق في الفصائل الدينية المسلحة وغير المسلحة المنادية بعودة الخلافة الكلاسيكية، بينما الخلافة ما زالت تحكمنا إلى الآن، قول الشاعر:

كالعير في الصحراء يقتلها الظمأ          والماء فوق ظهورها محمول!

فمنذ خمسة عشر قرناً حتى الآن، والعرب ما زالوا يُحكَمون بالخلفاء، وفي أشكال وأسمال مختلفة.

 4- كان التاريخ السياسي العربي أجدب، قاحلاً، ماحلاً من العدل والحق والحرية، مليئاً بالظلم، والطغيان، والسرقات، والعدوان، ولم يكن فيه غير تلك الواحات "العُمرية" (نسبة إلى الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب) الصغيرة المتباعدة من الحق والعدل، والتي جاءت رياح طغيان واستبداد الصحراء العربية المترامية العاتية فطمرتها، وساد "الطوز" (رمال الصحراء التي تهب في بداية الصيف) الدكتاتوري العاتي العرب زمناً طويلاً، فتحولت الخلافة الكلاسيكية المطلقة المُدعّمة بـ"الحق الإلهي" وبنظرية "الجبر" التي جاء بها الأمويون إلى النظام الدكتاتوري العربي العاتي الآن، بكل صوره الحزبية، والعسكرية، والقبلية. فما أوجه الشبه بين ماضي الخلافة الكلاسيكية ذات الحُكم المطلق، وبين الدكتاتورية العربية القائمة الآن بصورها الثلاث كافة؟

 5- كانت الخلافة الكلاسيكية، تعني الحُكم المطلق.

 فالخليفة الكلاسيكي كان يمسك بالسلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ومن هنا جاء الاستبداد والظلم، الذي كان يقوّيه السلطان والمال، في الوقت نفسه.

وكان الخليفة هو (ظل الله على الأرض) كما قال الخليفة المنصور، وهو الأمين على بيت المال، الذي هو مال الله، باعتباره ظل الله وخليفة رسوله الكريم، كما قال معاوية بن أبي سفيان.

والخليفة المعاصر، الآن يفعل الشيء ذاته، بيده السلطات الثلاث، وإن بدت هذه السلطات- ظاهرياً- مستقلة ومنفصلة عن الخليفة، ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، إنما كلها بيد الخليفة المعاصر. وما انتشار الاستبداد الحالي في العالم العربي إلا نتيجة لذلك، وفي هذا يقول السيد العلوي عن الخلافة المعاصرة في كتابه ("أضرار الحكم القبلي"، 2003):

"لقد اعتمدت الدكتاتوريات على مر التاريخ على فلسفات واهية لتبرير احتكارها للسلطة وحرمان الآخرين، كالحق الإلهي في الحكم. في القرون الغابرة، وفي القرون المتأخرة، تنامت فلسفة المجموعة الطليعية والريادية التي تقود الأمة ولو بالقهر إلى تطورها المأمول على الصعد المختلفة. ونشأت على ضوئها الدول الشمولية، وتحوّرت في شكل سياسي، عبرت عنه بوضوح دولة الحزب الواحد. وقد حاولت هذه الصور المختلفة، التلبُّس بالدين، عندما ترى احتياجاً لذلك، فتوظف الأحاديث والمفاهيم الدينية، من أجل تبرير وصولها إلى السلطة، واحتكارها لها".

ويضيف السيد العلوي، في كتابه قائلاً: "إلا أن أقبح الفلسفات في نظري هي فلسفة [الحق الإلهي] في الحكم المنحصر في شخص بعينه، اعتماداً على جدلية كاذبة، تتمحور حول ادعاء أن الله تعالى خصَّ هؤلاء بالحكم والسيطرة على القرار، وأن البقية عليهم التسليم والرضا بذلك، ولا يجوز لهم العمل على تغيير هذه الرغبة الإلهية".

 6-  لو دققنا النظر في معنى الرُّشد الذي أُطلق على العهد الراشدي (632- 661 م) لوجدنا أن الرُّشد كان يعني (الحرية دون إكراه). أي؛ عدم إكراه الناس على الإيمان، وعدم فرض الأيديولوجيا الإسلامية فرضاً على الناس. أي؛ لا إكراه في الدين، ولا في السياسة أيضاً، والدين في الحضارة العربية سياسة، والسياسة هي الدين. والإسلام دولة ودين.

والدليل أن أول عمل قام به الرسول الكريم بعد هجرته إلى المدينة، أن أقام "دولة المدينة"، وأشرك في هذه الدولة العرب المسلمين، والعرب الكفار، واليهود أيضاً. ولقد حقق الرسول الكريم عليه السلام بذلك، أول دولة في تاريخ العرب، وهي الدولة المكوَّنة من مسلمين، وكفار الأوس والخزرج، ويهود.  فكانت أول دولة في الإسلام "دولة سياسية" بامتياز.

(للموضوع صلة).

* كاتب أردني