من الذاكرة: «أم الشَّعاري»
كثيرون أكدوا أنهم شاهدوا هذا بأم أعينهم وبعضهم أضاف إلى الرواية المتداولة ما جعلها أكثر أسطورية وتشويقاً وجميع هؤلاء واجهوا الموت "الأحمر" ،في تلك البقعة المعروفة بأنها "أم الشَّعاري" ولم يتجنبوه إلا بتلاوة "آية الكرسي" وبعض ما إستطاعوا تذكره من الذكر الحكيم.هذه المنطقة التي لا يُبتلى بعبورها ليلاً ،وبخاصة في ليلة غير قمراء، إلا مضطرٌ أو جاهل لما فيها من أرواح شريرة، تقع فوق ربوة صخرية شديدة الوعورة تقابل مقام "حدد" على الضفة الشرقية من نهر الزرقاء ،المذكور في كتب التاريخ القديمة بإسم "نهر يبوق"، وهي تطل على وادٍ سحيق تتوسطه كهوف دارسة يعرفه المُسنّونَ من أهل المنطقة جيداً ويطلقون عليه إسم "وادي النخَّاخ".
تكثر على سفح المنحدر الموصل إلى "وادي النخَّاخ" "بيوت الغولة" حسب لغة التخاطب الدارجة في هذه المنطقة ،وبيوت "الغيلان" حسب اللغة العربية الفصحى، وبيت الغولة هذا يتكون من ثلاث صخرات كبيرات تشكل معاً ما يشبه حرف "U" في اللغة الإنكليزية تعلوها صخرة من الحجم نفسه ،ولكنها أكثر رقةً، هي سقف هذا البيت الذي لا يتسع لفتاة بقوام نانسي عجرم فكيف بغولة عملاقة كتلك التي تصفها الروايات الخيالية. لا توجد "بيوت الغولة" هذه إلا على الضفة الشرقية من نهر "يبوق" ،الذي أصبح لاحقاً نهر الزرقاء، وفي الشريط الممتد من الجنوب إلى الشمال من "وادي الحَصَبْ" وحتى "الجبل المطوَّق" الذي يحيط بهامته المرتفعة حبل من الصوان القرميدي اللون والذي يبدو عن بعد كشيخ جليل متيقظٍ بإستمرار يحرس المنطقة التي لا تغيب عن عينيه والممتدة من جبال عجلون وحتى جبال جلعاد والذي ينبع من جنبه الجنوبي جدول "خريسان" الجميل ومن جنبه الشمالي نبع "القنيَّة" الذي لا مثيل لمائه في الغزارة والعذوبة والصفاء.لم يستمع "حادي الليل" لنصائح الذين حذروه من خطورة عبور هذه المنطقة الموحشة في ليلة ممطرة رياحها شديدة ،كتلك الليلة، فامتطى بعد نحو ساعة من مغيب الشمس صهوة "كديشته" الهرمة التي كانت تبدو قبل حلول فصل الربيع شديدة الهزال وسلك الطريق "القادومية" التي لولا غريزة الحيوان وقدرته على تمييز الأمكنة لما إستطاع تمييزها في ليلة عاصفة شديدة الظلمة.هبط المنحدر ،الذي يقع في ذروة جبله، المشرأب العنق المرتفع الهامة ،مقام "حدد" الذي تحرسه شجرة بُطم شرق أوسطية معمرة، وعندما إقترب من نهر الزرقاء ،الغارق في غابة من الدَّرمك والدُّفلى وأشجار الصفصاف التي كانت عارية بلا أوراق، خانته شجاعته وإستبد به الخوف وتذكر أنه سمع أن ضبعاً كاسراً إفترس في هذه المنطقة ووسط هذا الدغل من الأشجار عابر سبيل في شتاء العام الماضي وفي ليلة كهذه الليلة.. أخذ يردد ما يحفظه من سورة "الفاتحة" ولكز "كديشته" لكزة رقيقة بـ"شابور" بسطاره الذي كان بدون رباط والذي تغير لونه مع تقدم العمر من الأسود إلى الرمادي الكالح.عبرت "الكديشة" النهر وهي تطلق من منخارها المترهل نخرات قوية ،نخرة بعد نخرة، ثم تسلقت المنحدر بمحاذاة وادي "النخَّاخْ" من الشرق وما أن وصلت إلى "أم الشعاري" حتى أوقفها "حادي الليل" ليقضي حاجة ألحت على مثانته بفعل الخوف ورطوبة المكان والمطر المنهمر.. ترجل وإختار جانب صخرة مرتفعة وإتخذ وضعية القرفصاء وقبل أن يفعل شيئاً لاحظ ثلاث كرات كل واحدة منها أكبر عشر مرات من حجم كرة القدم.. لم يعد يهتم بأين يقضي حاجته.. أداخل سرواله أم خارجه.. نهض مذعوراً وهو يقبض بقوة على رسَن كديشته وأخذ يركض ويركض على الطريق القادومية الرفيعة إلى أن وصل بعد نحو نصف ساعة إلى مضارب الشعر التي كان يقصدها.. هدأ روعه وإلتقط أنفاسه فنظر إلى الخلف.. لم يرَ رفيقة دربه.. وإكتشف أنه لم يكن يقبض على رسنها بل على "دَكَّة سرواله".. وعندما إسترد وعيه كاملاً تذكر أيضاً أن الكرات التي رآها لم تكن سوى شجيرات عشبية كانت إقتلعتها الرياح وأخذت تدفعها في إتجاهات مختلفة.