«البيارتة» والزمن العثماني
حين سألت فاروق عيتاني وهو سائق تاكسي وكاتب لديه كتاب {البيروتي التائه}(جداول): أي مرحلة أحب إليك في بيروت خلال القرن العشرين؟ أجاب أنه يفضل بيروت بين 1880 و1918.
كانت بيروت بين 1880 و1918 عاصمة ولاية بيروت العثمانية بمساحة تساوي ثلاثة أضعاف مساحة لبنان الحالية. كانت ساحلية مستكملة لساحليتها، وواعدة بالحداثة كتفاهم عثماني- أوروبي يقابله تلهف من {البيارتة} وإصرار على الدخول في العالم الجديد. كان تعداد سكانها 110 آلاف نسمة يسمح بعيش يستوعب الضعف من دون الإسمنت {اللي سد ضو الشمس}، كما يقول عيتاني، وكانت مكتفية بذاتها مصونة من أهلها، أهلها الحريصون على الآخر والانفتاح عليه. يروي عيتاني في {البيروتي تائه} فصولاً من أخبار بيروتية متوزعة بين مطالع القرن العشرين وحتى أيامنا هذه... لم تكن بيروت في هذا الزمن على مسار واحد أو على وجه واحد، بل كانت بيروتات مختلفة ومتناقضة منها: بيروت العثمانية، وبيروت الفرنسية، وبيروت العربية، وبيروت البيروتية، وبيروت الفلسطينية، وبيروت السورية... وقد وقع عيتاني في كتابه على أوقات مختلطة وأمكنة أثرية ودارسة، وعلى عوام نصفهم من لحم ودم ونصفهم من أخبار وأسماء وأطياف. بحسب قول مقدم الكتاب وضاح شرارة.
فاروق عيتاني إذ يسرد وقائع المدينة بوجوهها كافة، يحب بيروت في وجهها العثماني على ما يقول لي، وهو ليس البيروتي الوحيد الذي تستهويه بيروت العثمانية ويحن إلى فردوسها الغابر والمتبدل والمتقلب. خلال بحثي عن كتب تؤرخ لهذه المدينة، وجدّت أنّ الكثير من الكتّاب والمخاتير والمحامين {البيارتة} أو من أبناء بيروت يميلون إلى تاريخ بيروت العثمانية وصورها وقصصها وميتولوجياتها وتقاليدها وسورها الزائل وأبوابها ووجهائها وأفندييها وقبضياتها. كأنهم في ذلك يشيرون إلى زمن طبائعهم قبل أن تتلقى {بيروت الضيعة} على ضفة المتوسط صدمة الحداثة الغربية وتخسر تلك الطبائع كافة تدريجاً.بيروت المحروسة أصدر المؤرخ حسان حلاق كتباً كثيرة عن بيروت العثمانية، من بينها {بيروت المحروسة}، و{ألبوم صور} لمجموعة مدن من بينها بيروت، وفيه نلاحظ أن الكثير من تقاليد المدينة أصبحت من الماضي ولعل أبرزها {أربعاء أيوب} والحكواتي وثقافة حرج بيروت وغيرها...المحامي عبد اللطيف فاخوري أيضاً دأب على كتابة حكايات عن أسواق بيروت القديمة وناسها وأرضها وأمثالها وشجرها وساحاتها، فأرّخ كثيراً للمرحلة العثمانية.كتاب {بيروت والسلطان} من إعداد سوسن آغا قصاب وخالد تدمري، يضم مئتي صورة من أرشيف السلطان عبد الحميد الثاني تعكس صورة بيروت في نهاية القرن 19 للميلاد. كذلك يعرض لسلسلة التغيرات الجذرية لبيروت، التي طاولت بنية المدينة عموماً بسبب سياسة السلطان الهادفة إلى تنظيم الدولة وتنميتها.كأن بعض الكتّاب المؤرخين اللبنانيين لا يحبون المرحلة الفرنسية ولا يجدون فيها حكاية للكتابة، وهم حين يؤرخون لهذه المرحلة (أي الفرنسية) يرصدون كيف أن الحداثة الغربية جرفت في طريقها التقاليد التي كانت حاضرة في بيروت العثمانية، كأنهم يرثون هذا الزمن ولا يتبنون الجديد، والأمر هنا يتعلق بالجماعات اللبنانية المتناقضة.لم أوفق في الحصول على كتب جيدة تؤرخ بيروت الفرنسية، ربما باستثناء سير بعض الشخصيات الفرنكوفونية مثل مود فرج الله أو بعض المجلات التي تعبّر عن تلك المرحلة، أو تلك التي تكتب عن فلكلور الاستقلال اللبناني، من دون أن ننسى «كتاب بيروت» لسمير قصير. وثمة كتاب «افندي بيروت» للباحث نادر سراج يؤرخ للمدينة من خلال وجيه بيروتي من آل الجمال ويمتد زمن التأريخ والرواية من المرحلة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي، كتاب جدير بالقراءة غني يكتنز بمعلومات ووثائق نادرة.نظرة البيارتة إلى الزمن العثماني لا تختلف عن نظرة بعض الموارنة إلى زمن قوتهم في «لبنان الصغير» قبل أن يتشكل «لبنان الكبير»، ولا تختلف عن نظرة الدروز إلى زمن ما قبل حرب 1860... المفارقة أن {بيروت السوليديرية} أزالت ما تبقى من بيروت العثمانية وأعادت ترميم بيروت الفرنسية على ما هي عليه.