لو تابعت ما يحدث في «رابعة» الآن لوجدت أن الاعتصام، الذي ظهرت أدلة واضحة على عدم سلميته، وتورطه في تعذيب مواطنين وقتلهم، وقيامه بتخريب حياة السكان، وقطع الطرق والتصادم مع الأهالي وقوى الأمن، تحول إلى «مولد» من تلك الموالد التي يعرفها المصريون ضمن طقوس «التدين الشعبي».

Ad

يتجمع أنصار جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر في موقعين رئيسين؛ أولهما في ميدان "نهضة مصر" بجوار جامعة القاهرة، وثانيهما في إشارة مرور "رابعة العدوية" بمدينة نصر، شرق العاصمة، ليعبروا عن رفضهم لإطاحة الرئيس السابق محمد مرسي، الذي تم عزله من الحكم، بعد انتفاضة ثورية عارمة، شارك فيها عشرات الملايين في مختلف أنحاء البلاد، قبل أن يتدخل الجيش لتفعيل إرادتهم، ويعلن "خريطة طريق" جديدة تضمن انتقالاً ديمقراطياً يستوعب الجميع.

كان أنصار مرسي قد عرفوا الطريق إلى الموقعين المشار إليهما مبكراً جداً؛ خصوصاً موقع "ميدان النهضة"، الذي أُقيمت فيه جمعة "الشرعية والشريعة" في شهر ديسمبر الماضي لدعم الرئيس المعزول في مواجهة التظاهرات الكبيرة التي خرجت ضده حين أصدر إعلانا دستورياً هزلياً، حصّن فيه قراراته ضد أي نوع من أنواع المساءلة في شهر نوفمبر الماضي.

أما إشارة مرور "رابعة العدوية" فهي ليست ميداناً بالمعنى المفهوم، ولكنها مجرد تقاطع بين شارعين مهمين كبيرين، اختارها "الإخوان" لأنها قريبة من مركز إسلامي يشمل مشفى وقاعات مناسبات يديرها محسوبون على الجماعة أو متعاطفون معها، والأهم من ذلك أنها بجوار قصر الاتحادية مقر حكم الرئيس المعزول، وبالتالي كان تجمعهم فيها يتيح لهم فرصة التدخل السريع في حال محاصرة القصر أو محاولة اقتحامه من جهة، ولأن هذا المكان أيضاً يقع بجوار مقر "الحرس الجمهوري" الذي اُحتجز فيه مرسي في الأيام القليلة التي أعقبت عزله من جهة أخرى.

قبل وصول "الإخوان المسلمين" إلى الحكم في مصر كان اسم "رابعة العدوية" يعني دلالات متعددة وملتبسة؛ أولاها اسم إشارة المرور المشار إليها، وهي تقع في منطقة تسكنها الطبقة الوسطى المصرية، وتعد حياً راقياً، يعكس قدراً من المدنية في الامتداد العمراني الحضري الذي شهدته مدينة القاهرة.

وثانية تلك الدلالات تُستمد من شخصية "رابعة العدوية" التاريخية التي تُعد عابدة وصوفية تاريخية، وينسب إليها تأسيس مذهب "العشق الإلهي"، الذي يُنظر إليه باعتباره أحد المذاهب الصوفية.

لكن ثمة دلالة ثالثة، تبدو أكثر شيوعاً ورسوخاً، في الوعي الجمعي للمصريين، وهي دلالة مستمدة من فيلم سينمائي شهير، أخرجه المخرج الراحل نيازي مصطفى، ولعبت بطولته الفنانة نبيلة عبيد، في عام 1963.

لقد صوّر هذا الفيلم "رابعة" باعتبارها فتاة لاهية عابثة، تعمل في الغناء والرقص وتصاحب الرجال، قبل أن يطرأ تحول جوهري في حياتها، تكتشف من خلاله عظمة الخالق، وتكرس حياتها لعبادته ومحبته، وتترك حياة اللهو والترف إلى تقشف وزهد وقناعة وامتثال ديني قياسي يليق بقطب ديني شديد الورع.

ورغم أن ثمة خلافاً على تلك الرواية، فإن الوعي الجمعي للمصريين بات، بشكل أو بآخر، يدرك أن "رابعة العدوية" هي تلك الفتاة التي أفنت نصف حياتها في اللهو والعبث وارتكاب الآثام، بينما كرست نصف حياتها الآخر لحب الله والتفرغ لعبادته.

حين بدأ الاعتصام في "رابعة"، كان مماثلاً تماماً لأجواء اعتصام "النهضة"، ومتمثلاً لكافة تقاليده وسماته، خصوصاً ما يتعلق بهويته الدينية الصرفة، باعتبار أنه جزء من حركة مناصرة واحتجاج، تهدف إلى "إعلاء الدين والذود عنه".

ولذلك، فقد كان من الواضح جداً أن التجمع في "رابعة" هو تجمع للإسلاميين وأنصار الشريعة كما يفهمها أنصار الرئيس المعزول، حيث تم استخدام كافة الشعارات الدينية، من نوع "بالروح بالدم نفديك يا إسلام"، و"خيبر خيبر يا يهود... جيش محمد هنا موجود"، إضافة إلى استهداف العلمانيين والليبراليين و"النصارى" والتحريض ضدهم، واعتبارهم "خارجين على الدين" و"كفاراً" يجب قتالهم.

كانت منصة "رابعة" تؤكد طابعها الإسلامي إذن، وتستخدم الشعارات الدينية، وتستدعي الاقتباسات من النصوص، بغرض تعزيز لحمة المعتصمين، وإفهامهم أنهم موجودون لـ"مقاومة الحرب على الإسلام والانتصار له ضد الكفار".

ولذلك، فقد رُفعت أعلام القاعدة السوداء، ورايات التكفيريين وهتافاتهم، وتصاعدت لغة الحديث عن "فسطاط الإيمان" في "رابعة" و"النهضة" و"فسطاط الكفر" في بقية الميادين.

وحين تم استدعاء التدخلات الأجنبية من أنصار الرئيس المعزول، وحين ركزت "الجزيرة"، وعدد من القنوات ذات الإسناد الديني و"الإخواني"، وبعض وسائل الإعلام الأجنبية، عدسات كاميراتها على الاعتصام، تم اتخاذ قرار استراتيجي واضح بتغيير الشعارات وشكل الاحتجاج ومقولاته الرئيسة.

لقد تم الاتفاق على استبعاد كافة الأعلام السوداء، وتم التقليل إلى أقصى درجة ممكنة من استخدام الشعارات الدينية، ليحل بدلاً منها كلام عن "الشرعية" و"الديمقراطية" و"مناهضة الحكم العسكري".

وبدلاً من أعلام "القاعدة" أمرت المنصة الأنصار برفع أعلام مصر، وتم التنبيه على عدم استخدام عبارات التكفير والهجوم على "النصارى"، ليصبح المشهد أمام العالم الخارجي كأنه صراع بين "أنصار الشرعية" و"أنصار الانقلاب".

إنها لعبة لا يمكن أن تنطلي على أي عاقل، لكنها مع ذلك وجدت رواجاً لدى هؤلاء الذين قررت مصالحهم أن يتعاملوا مع الأمر على هذا النحو في محاولة لإخفاء حقيقة الدعوات التكفيرية والإقصائية والدوغمائية التي يتبناها أنصار الرئيس المعزول.

مع مرور الوقت، بدأ صبر المعتصمين ينفد، وبدأت الأعداد في التناقص، مرة لأن قيادات "الإخوان" لا يشاركون المعتصمين اعتصامهم، مكتفين بالظهور على المنصة من وقت إلى آخر، ومرة لأنهم لا يشاركون في مسيرات التخريب وقطع الطرق التي تنتج عنها وفيات وإصابات، ومرة أخرى لأن المعتصمين أدركوا أن قيادات "الإخوان" يخوضون مفاوضات تهدف إلى تحقيق مكاسب ضيقة بعيداً عن مطلب "إعادة مرسي"، الذي بات مجرد شعار فارغ لا يسنده أي واقع.

ثمة عوامل أخرى مؤثرة راحت تفت في عضد المعتصمين؛ مثل خشونة المنصة معهم، وتراجع قدرتها على توفير الأموال وسد الاحتياجات المعيشية لهم، ومضي الدولة قدماً في تفعيل "خريطة طريق المستقبل" بإجراءات عملية، وزيادة عدد الوعود الكاذبة التي تم إيهامهم بها للبقاء، وأخيراً بسبب إحساسهم بالاستنكار والعداء الواضحين لهم من قطاعات كبيرة في الشعب المصري.

راحت قيادات "الإخوان" تفكر في وسائل لإبقاء الحشد، الذي بات الدلالة الوحيدة على وجاهة مطالبهم، والذريعة الوحيدة لاستدعاء التدخلات الأجنبية، والوسيلة الأخيرة لبقائهم في الأخبار والحديث عنهم بوصفهم أصحاب مظلومية تحتاج حلاً.

لو تابعت ما يحدث في "رابعة" الآن لوجدت أن الاعتصام، الذي ظهرت أدلة واضحة على عدم سلميته، وتورطه في تعذيب مواطنين وقتلهم، وقيامه بتخريب حياة السكان، وقطع الطرق والتصادم مع الأهالي وقوى الأمن، تحول إلى "مولد" من تلك الموالد التي يعرفها المصريون ضمن طقوس "التدين الشعبي"، الذي يحرصون عليه في الطبقات الأقل نمواً واستنارة، في أعماق الريف والأحياء المهمشة.

في "رابعة" الآن مدينة ملاهٍ، وحلقات رقص وغناء، واسكتشات هزلية على المنصة، ومطابخ لإعداد "كعك العيد"، وألعاب نارية، وطقوس احتفالية، وحفلات سمر للترفيه عن الأطفال والأسر، وأغان من تلك التي يمكن أن تسمعها في حفلات الزواج أو في قاعات الفنادق.

وكأن "رابعة" التي بدأت حياتها، كما تدرك المخيلة الشعبية، كمغنية عابثة قبل أن تتحول إلى عابدة ورعة، عادت إلى سيرتها الأولى، وتركت الورع والزهد إلى اللهو والعبث من جديد.

لا تستطيع جماعة "الإخوان" إقناع معتصميها بالبقاء أكثر من هذا، لذلك، فقد راحت ببراغماتية مذهلة، وانتهازية قياسية، تحول احتجاجها السياسي إلى "مولد شعبي".

والواقع أن الجماعة ليست ملومة فيما ذهبت إليه، باعتبارها برهنت مرات ومرات على انتهازيتها وميكافيليتها وعدم التزامها بأي من القيم التي تدعي الدفاع عنها، كما أن البسطاء المهمشين المحتشدين في "رابعة" لن يمكن توجيه اللوم لهم كذلك، باعتبار معظمهم "مخطوفا ذهنياً" من قبل الجماعة وسدنتها، ولحاجة بعضهم إلى المأوى والطعام والترفيه الذي تقدمه الجماعة مجانا على مسارح الاعتصام.

لكن اللوم يجب أن يوجه إلى هؤلاء الذين يدافعون عن هذا السلوك الانتهازي ويعتبرون أن "رابعة العدوية" ما زالت عابدة زاهدة، ولم تعد إلى سيرتها الأولى لتمارس العبث والمجون.

* كاتب مصري