لا أعرف متى التقيته أول مرة ولا أدرك الآن أين. كان الزمان بليدا رتيبا، كل أيامه التي مرت تتشابه، فلا نميز يوما عن سواه، ولم تكن أيامه القادمة بأفضل من سابقتها لنا نحن المنذورين للرتابة والناظرين الى أمل معلق بين سراب الأرض وانعكاسه في السماء.

Ad

ربما كنا في مكتبة الآداب في الشويخ، لا بد أننا كنا في مكتبة الآداب في الشويخ فليس بامكانك أن تلتقي طالب العنزي الا في مكتبة تجمعكما معا. حين رأيته سألني عن شقيقي الذي يدرس في الآداب ليتأكد أنني الشخص الذي يريد ثم أكمل أنت. قلت نعم. وحين أدركنا أننا نعاني ألما واحدا أصابنا الحزن وتهدج حديثنا ولو كنا نعلم أن الحياة قصيرة وأنه سيرحل كما يوحي له مرضه الذي عاصره حتى عصره وأنني أرحل كما أوحى لي نفاد صبري لكان الأجدر بنا أن نضحك حتى البكاء في زاوية الدوريات العربية حيث كنا نجلس.

هكذا رحل الرجل الذي تباغتك طيبته وحبه للتاريخ والمكتبات التي وجد نفسه يعمل فيها وينغمس في البحث والتحليل ليتخصص تخصصا طريفا وغريبا لا يحبه الجميع وربما ينفر البعض منه. طالب العنزي رأى في بحوثه التي يقوم بها سطو البعض على أفكار الآخرين وانتزاعه أغلفة رسائل البحوث الأكاديمية واحلال اسمه بديلا للباحث الأصلي والاستيلاء على جهده وسهره ونتاج فكره. يرى طالب في لقاء أجراه معه الشاعر دخيل الخليفة ضمن فيلم قصير بعنوان مبدعون "بدون" أنه الوحيد الذي يحمل عناء هذا التخصص في الكويت والوطن العربي وأنه اكتشف أكثر من بحث مسروق قدم كرسائل بحثية لنيل الدكتوراه. كان يكره السرقات ويكتشف سارقيها ونجح كثيرا في ذلك ولكنه فشل في استعادة حلمه المسروق.

لم ألتق به منذ سنوات طويلة هي عمر غربتي، عرفت أن مرض السكري قد زاد من معاناته واجتمع الحرف الذي يتتبعه والسكري المرض ليطفئ النور في عينيه ويفقد بصره وليرتاح منه "حرامية" العقول ويرتاح هو أيضا منهم.

تخرج طالب العنزي في كلية الآداب بجامعة الكويت عام 1980 بعد احدى عشرة سنة من تخريج الكلية لأولى دفعاتها عام 70، ولكنه أيضا أحد البدون القلائل الذين سبقوا زملاءهم في التحصيل العلمي وكان يتحدث في كل لقاء يجمعنا صدفة بالحلم الكبير الذي يحمله في الحصول على الجنسية الكويتية.

رحل طالب العنزي متناسيا أن لا أحد يكترث لحلمه الكبير، فليس للأدباء كرامة في أوطانهم، ولكنه مات كويتيا ودفن في أرضه، وربما تضاءل حلمه الكبير في وطن بأكمله الى قبر صغير ينام في جوفه. رحل طالب العنزي وما زال الحلم بوطن بكامله يراود الكثيرين من أقرانه وابنائهم.

لم يعش طالب العنزي طويلا تحت وطأة همومه وأحلامه التي ورثها من الجيل الذي سبقه ليورثها الجيل الذي تركه خلفه، ولم تكن حياته القصيرة التي عاشها محبا للجميع ومحبوبا من الجميع أكثر من التماع فراشة النار حول النار ولم يكن نفسه أطول من النفس الأخير للظبي الطريد قبل سقوطه دون النبع. رحم الله طالب العنزي ورحم الله الحلم الذي كان يحمله.