إن أرادت شعوب العالم القديم أن تنتقل إلى العالم الجديد وتحقق الحرية والعدالة التي ترفع شعارهما في هذه المرحلة المفصلية، وإن رغبت الحكومات في استقرار مجتمعاتها، فعليها أن تضع في الاعتبار فلسفة "العدالة كإنصاف"، وهي فلسفة ظهرت في السبعينيات من القرن الماضي في كتاب "نظرية في العدالة" لفيلسوف الليبرالية العدلية جون راولز، الذي وضع نظرية توفق بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية.
أثارت هذه الفلسفة نقاشات واسعة وجدلاً محتدماً، ففي الصراع الأيديولوجي التاريخي بين الفلسفات السياسية كانت العدالة الاجتماعية تشكل أولوية عند الفكر الاشتراكي، بينما تشكل الحرية الفردية جوهر الفكر الليبرالي، وهو صراع قسّم العالم إلى "مناصري المساواة" و"مناصري الحرية".وفي كلتا الفلسفتين كانت إحدى القيمتين تعلو على الأخرى، الأمر الذي أخلّ بمفهوم العدالة بوصفها إنصافاً، إلا أن جون راولز جاء بنظريته ليضع أسساً لمفهوم العدالة بما يوفق بين القيمتين ويوازن بين حق الفرد وحق الجماعة، بحيث لا يضحي المجتمع بحقوق الفئات المحرومة.جاءت نظرية راولز لتؤسس فلسفة سياسية أخلاقية تعالج انحرافات الفلسفة "النفعية" البراغماتية التي انتشرت وراجت، وهي فلسفة تعلي من شأن المنفعة المادية (التي تؤمن بأن الاقتصاد الحر من شأنه أن يفعل التنافس والذي بدوره سيحقق أكبر قدر من المنفعة عبر تحقيق فرص عمل لأفراد المجتمع) وتضعها فوق قيم الحرية والعدالة، الأمر الذي أدى إلى انتشار الاستغلال والتضحية بحقوق بعض الأفراد من أجل "المنفعة العامة"، وتركيز الثروة في مجموعة صغيرة، وانتشار اللامبالاة تجاه الفئات المحرومة والأقل حظاً، واتساع التفاوت بين الطبقات الاجتماعية.كما أن تقليص الحرية في سبيل العدالة الاجتماعية من شأنه أن يفتح أبواب الاستبداد والديكتاتورية باسم العدالة، إلا أن فلسفة "العدالة كإنصاف" جاءت لتزيل التناقض التقليدي القائم بين صراع الحرية والعدالة ليكمل بعضهما بعضاً في معادلة تستند إلى مبدأين أساسيين، وهما حق الجميع بشكل متساوٍ في الحرية وهو مبدأ له الأسبقية بهدف ضمان المساواة في الحرية للجميع، أما المبدأ الثاني فينظم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي النسبي الذي ينشأ بسبب الحرية في التنافس (فمساواة المنتج بغير المنتج هي مساواة غير عادلة وغير منصفة)، غير أن هذه المعادلة تشترط مبدأ تكافؤ الفرص بما يتيح للجميع الحق المتساوي في الحقوق والحريات، على أن تضمن مصلحة الأكثر حرماناً لتجنب اتساع التفاوت الطبقي.يؤكد راولز أن المساواة في الحرية تأتي أولاً كضامن للمساواة في الفرص، مما سينعكس على تحقيق العدالة كإنصاف، أما الأكثر عرضة للحرمان والحاجة والفقر فمن واجب المجتمع والدولة (دفع الضرائب وتقديم الإعانات وتوفير الحقوق الأساسية كالصحة والتعليم) رعايته وتحسين أوضاعه، فمن المستحيل بمكان أن تتحقق العدالة الاجتماعية دون مساواة في الحرية، كما أن تحقيق الحرية بدون العدالة الاجتماعية هو انصاف يهدد الحرية ذاتها وينسف أسس بناء مجتمع حداثوي يروم إلى تحقيق الديمقراطية الحرة العادلة. لقد أثبت التاريخ أن اختلال الاستقرار المجتمعي والسياسي والاقتصادي يبدأ حين تختل المعادلة بين الحرية والعدالة، أما التوفيق والتوازن بينهما فيعمل على استقرار المجتمعات وازدهارها، والأمثلة على أرض الواقع أكثر من أن تحصى، فهل تعي شعوبنا وحكوماتنا البدائية هذا الواقع وتبدأ برحلتها الطويلة نحو العالم الجديد؟
أخر كلام
الليبرالية العادلة.. مدخل إلى العالم الجديد
01-03-2013