لا عزاء للحريات التي أصبحت كالشاة التي تسلخ بعد ذبحها... ومن حبس حمد النقي 10 سنوات، بسبب تغريدة في عالم افتراضي، إلى هوس الحكومة بملاحقة العشرات من المغردين والسياسيين والنشطاء المعارضين، إلى مسلسل التعسف باستخدام أداة الحبس الاحتياطي في التأديب، وأخيراً الحكم بحبس 3 نواب معارضين، وعدد من المغردين بتهمة "الإساءة للذات الأميرية"، والاحتقان السياسي والاجتماعي في تصاعد، والأيام حبلى بالمجهول. وقد قالت المحكمة في إحدى حيثيات حكمها على مغرد بالحبس سنتين مع الشغل والنفاذ "إنه لا يلزم لتوافر عناصر التجريم في التهم المسندة للمتهم أن يشير إلى الأمير مباشرة وصراحة، بل يكفي أن يفهم مراده".

Ad

وحسب رأي فارس عبدالكريم، الباحث في فلسفة القانون، فإن القاعدة الفقهية تذهب إلى أن "الشك يفسر لصالح المتهم، لأنه يقوي أصل البراءة فيه، والأصل لايزال إلا بيقين، وأن أي ضعف في الأدلة يقوي أصل براءة المتهم".

إن نقد التعسف في الأحكام مباح، كما يبين خبراء القانون، فالحصانة القضائية تمنع توجيه الاتهام بصورة مباشرة إلى أشخاص القضاة أو التأثير في سير العدالة في قضية منظورة أمام القضاء. ونقد تلك الأحكام المتعسفة يأتي كونها تصنع "سجناء رأي" حسب مفهوم الشعوب "الما بعد حداثية"، فالسجون مخصصة لمعاقبة المجرمين واللصوص والقتلة، أما في دولنا فهم مرتكبو جرائم أمن الدولة، ويسجنون باسم القوانين التي يغلب عليها طابع التأويل والمطاطية.

فطوفان القوانين القروسطية (التي عليها شبهات دستورية) أغرق مواد الحريات التي كفلها الدستور، وأحال مراكبها ومراسيها إلى أطلال تذروها الرياح... وأضحى لسان حالنا يردد مع أم كلثوم "كان صرحاً من خيال فهوى... وبريق يظمأ الساري له... أين في عينيك ذياك البريق؟".

تتردد كلمة "الحريات" على الألسن، إلا أن الخلل في البنيوية العقلية والثقافية لمجتمعنا الذي لا يؤمن بالحرية، ولو آمن بها لكانت أولى أولويات مشرعي الأمة الذين أتى بهم الشعب، إلا أنهم لم يحركوا ساكناً تجاه الكثير من القوانين القروسطية البدائية التي تهدر قيمة الدستور الذي يسودها ويعلو عليها. فما جدوى تلك الحريات التي يعاقب عليها القانون؟! وما فائدتها حين تنشر تلك القوانين الخوف والنفاق والجبن؟! إلا أن اليوم يؤكل من سكت عن "أكل الثور الأبيض"، وساهم في تكالب السلطة على الحريات، وتقاعس عن تعديل القوانين القروسطية، بل أمعن في تغليظ عقوباتها، وانشغل بسفاسف الأمور عن قضايا الحريات واستقلال القضاء، وأضحينا بين مطرقة السلطة التي تتعسف في استخدام القوانين ضد معارضيها وبين سندان السلطويين من نواب الشعب الذين كان بعضهم يعد لاقتراح (قبل إبطال مجلس 2012) يتم من خلاله إنشاء مكتب نيابة "للأخلاق العامة" وشرطة لمكافحتها.  

هناك فرق بين التفكير النقدي والنقد، وهما عمود الديمقراطية ومحرك الشعوب الحية، وبين التجريح والشتم والقذف والازدراء والعنصرية التي يعاقب عليها القانون في الدول المتحضرة، وقد ألغت الدول الديمقراطية الحقيقية عقوبة الحبس في قضايا الرأي، ما لم تحرض على العنف والقتل، وأحلت محلها العقوبات والغرامات المالية للمتضرر، فلابد للجريمة أن تتناسب والعقوبة. إلا أننا نقلب المفاهيم ونخلط المعايير ونعكس القيم، لنحاسب الناقد أو المعارض أو المختلف في الرأي ونترك المزدري والعنصري والشوفيني والطائفي دون رادع أو تعويض للمتضرر. وبينما يعاني المجتمع انحلالاً في سيادة القانون، يتجلى سوط القوانين القروسطية على ظهور الحريات، التي لن تدافع عنها العقول القطيعية المروضة التي لا تؤمن بحريات الآخرين، فتارة تُرفع رايات النصر لقمع حرية الرأي، وأخرى تفرح لقمع حرية المعتقد.

"أما أنت يا أنشودة القلب في كل زمان ومكان" (كما يردد عماد حمدي في فيلم بين الأطلال)... فيبدو أن هجرك سيطول.