لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عند لوحات مارك كالفيت ذات الروحية الخاصة في الشكل والمضمون والألوان والعلامات، فهي مميزة في زمن اختلط فيه كل شيء، سواء بسبب ثقافة الفوتوشوب أو الاستنساخ، حيث يستند كثير من الفنانين الجدد إلى الرواد لتقديم أعمال، لا جديد فيها سوى استعادة الماضي بروحية جديدة. وبات صعباً على الفنان أن يخترق جدران الأيقونات الفنية التي رسخت في الذاكرة، وأصبح أمراً مرهقاً أن يصنع الفنان المغمور لنفسه هالة كبيرة كما في السابق.

Ad

جان مارك كالفيت المولود في نيس (فرنسا) عام 1965، والفائز بجوائز دولية عدة من بينها البينالي، بات اسماً معروفاً، أولاً بسبب سيرته المضطربة والدرامية وثانياً بعد شهرته في الفن التشكيلي، حيث تحول إلى قضية إنسانية في فيلم وثائقي عرض في أكثر من مناسبة ومعرض. لا تنفصل سيرة كالفيت عن أعماله وأحلامه، وإن كان لا يرسم مواضيع ذاتية، لكن الفن بالنسبة إليه كان طريقه للخلاص من عالم المخدرات والإدمان والموت اليومي. بعد عناء وتعب وألم وصراع مع ذاته وجسده، انتقل من مدمن مخدرات كان على طريق الهلاك الجسدي والروحي والنفسي، إلى مدمن ألوان يقدم لوحات مثالية تثير الدهشة والإعجاب. الألوان الحالمة رفعت عنه الماضي المضطرب والعنيف، وحولته رسولاً للألوان والمواضيع الزاهية، كأن الفنان الذي عاش تجارب مريرة في حياته وجد في الألوان والطلاء متنفساً له في حياته، بل السبيل الوحيد لخلاصه، يصنع السلام مع ماضيه من خلال رحلة استثنائية.

خلفية درامية

كالفيت الذي انطلق في فنه من خلفية درامية، أحرز تقدماً كبيراً في أسلوبه، جمع بين الكتابة على الجدران على غرار الفنون البدائية إلى ما هو مميز ويدل هويته الشخصية. في لوحاته، كما في معرضه الأخير {الخلاص}، تجد رسوماً بدائية مع مستويات معقدة من التفاصيل، وفي قلب اللوحة يصرخ الوجه بقوة وعزم كأنه يخرج ألمه من الداخل أو كأنه يطرد الماضي الدرامي من روحه. كل شيء يصرخ في لوحات كالفيت، وكل لوحة هي جمهورية من اللوحات، غابة متنوعة من الألوان والأشكال والتفاصيل.

قبل أن يصبح كالفيت ذائع الصيت، لم يكن يعرف كثيراً في أمور الفن التشكيلي وعباقرته ورواده، بعضهم كان يتأمل لوحاته في محترفه ويقول له: {إنك تشبه جاكسون بولوك}، لكنه كان يجد نفسه أقرب إلى الفنون البدائية. كان يرسم لأنه يفرغ الشحن الذي في داخله، يصارع ذاته لخلاص نفسه، وتنطبق عليه مقولة بابلو بيكاسو {جميع الأطفال من الفنانين، والقضية في قدرتهم على الحفاظ على الفن عندما يكبرون}. وكالفيت الذي كانت المخدرات تقتل طفولته وماضيه وحياته، بدا من خلال اللوحة كأنه ذلك الكبير الذي حافظ على طفولته ولم يقتلها أو عادت إليه في ألوانه وأشكاله وجنونه. في البداية كان يرسم لأجل البقاء، والآن يفعل ذلك لجعل حياته أفضل ولأجل الاستقرار العاطفي.