من بين كل الكتاب الكبار الذين عرفهم الأدب العالمي، يعتبر رابليه الأقل شهرة في بلادنا، وقلَّ ما تمت دراسته، وفهمه وتقديره. ورغم ذلك يحتل رابليه واحدة من ضمن أولى المراتب بين المؤلفين الأوربيين. وقد لقبه بيلينسكي بالعبقري، وبـ{فولتير» القرن السادس عشر، وعَدَّ أعماله إحدى أفضل أعمال الأزمنة الماضية. واعتاد أهل الاختصاص الأوروبيون، نظراً إلى قوته في مجال الفن والأفكار وأهميته التاريخية، وضعه مباشرة بعد شكسبير، بل وأحياناً إلى جانبه. أما الرومانسيون الفرنسيون، خصوصاً شاتوبريان وهوغو، فقد بوؤوه مكانة بين أبرز عباقرة الإنسانية لكل الأزمنة وعند كل الشعوب. لقد اعتُبِر وما يزال يُعتبر ليس فقط كاتباً من الطراز الرفيع بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما أيضاً حكيماً ومبشراً. وها هنا حُكْمٌ من أكثر الأحكام دلالة عند ميشْليه: «لقد تلقى رابليه حكمة التيار الشعبي من اللهجات العامية القديمة، والأقوال، والأمثال ومقالب طلاب المدارس ومن أفواه البسطاء والحمقى.
«وعبر هذه الحماقات تظهر عبقرية القرن وقوته التنبؤية في عمقها، وحيث لم يجد شيئاً بعد، فهو يستشرف، يَعِد ويقود. وفي غابة الأحلام، نرى تحت كل ورقة ثماراً سوف يقطفها المستقبل. كل هذا الكتاب هو الغصن الذهبي بعينه».من البديهي أن جميع الأحكام والتقديرات من هذا النوع هي أحكام نسبية. لن نقترح الجزم في وضع رابليه إلى جانب شكسبير، أو أعلى أو أدنى من سرفانتس...إلخ. لكن لا يمكن التشكيك في حقيقة المكانة التاريخية التي يحتلها ضمن مبدعي الأدب الأوربي الجديد، أي ضمن دانته، بوكاشيو، شكسبير وسرفانتس. لم يوجِّه رابليه بشكل كبير مصير الأدب واللغة الأدبية الفرنسيين فحسب بل وجَّه أيضاً الأدب العالمي (وربما بالدرجة نفسها كما عند سرفانتس). ومن المؤكد إطلاقاً أنه الأكثر ديمقراطية بين رواد الآداب الجديدة.لكن من وجهة نظرنا، تتجلى قيمته الرئيسية في كونه أشد وأعمق ارتباطاً من الآخرين بالمصادر الشعبية، وهي مصادر نوعية (تلك التي يقدمها ميشليه هي بالتأكيد دقيقة بما يكفي، لكنها رغم ذلك ليست جامعة)؛ لقد حَدَدت هذه المصادر نسق صوره برمتها وكذلك تصوره الفني.وللدقة أكثر فإن هذا الطابع الشعبي الخاص، ونستطيع القول، الجذري لصور رابليه كلها، هو ما يفسر أن مستقبلها تميز بكل ذلك الثراء الاستثنائي، مثلما أكد على ذلك ميشليه بحق. إن هذا الطابع الشعبي هو ما يفسر أيضاً «المظهر غير الأدبي» لرابليه، أقصد بالقول عدم تقيد هذه الصور بقوانين وقواعد الفن الأدبي السائرة منذ نهاية القرن السادس عشر حتى أيامنا هذه، كيفما كانت التنويعات التي خضع لها محتواها. لقد أدار لها رابليه ظهره أكثر بكثير مما فعله شكسبير أو سرفانتس اللذان كانا يكتفيان بالابتعاد عن القوانين الكلاسيكية المتفسخة نسبياً إبان عصرهما. إن صور رابليه موسومة بنوع من «الطابع غير الرسمي» الذي لا يمكن قهره، والجازم بحيث أنه ما من وثوقية أو سلطة أو جدية أحادية الجانب تستطيع التناغم مع الصور الرابليهية، المعادية بشدة لكل اكتمال نهائي، لكل ثبات، لكل جدية محدودة، لكل حد أو قرار جازمين في مجال الفكر وتصور العالم.وذلك ما يفسر عزلة رابليه في القرون الموالية: من الصعب الوصول إليه عبر سلك أي من السبل التي سار عليها الإبداع الفني والفكر الإيديولوجي لأوربا البورجوازية على امتداد القرون الأربعة التي تفصلنا عنه. وإذا كنا نلتقي في هذا الفاصل عددا من المعجبين المتحمسين لرابليه، فنحن لا نجد في أي مكان فَهْما شاملا لأعماله، ومعبراً عنه بوضوح.إن الرومانسيين الذين نفضوا الغبار عن رابليه، مثلما فعلوا ذلك بالنسبة إلى شكسبير وسرفانتس، لم ينجحوا في العثور على مفتاحه ولم يذهبوا أبعد من الدهشة المنبهرة. كثيرون هم من صدَّهم رابليه ولا يزال. إن الأغلبية الساحقة منهم لا تفهمه. وإلى يومنا هذا، في الحقيقة، تظل صور رابليه ملغزة إلى أبعد حد.الوسيلة الوحيدة لفك رموز هذه الألغاز، هي القيام بدراسة معمقة لمصادره الشعبية. وإذا بدا رابليه وكأنه وحيد لا يشبه أحداً من بين أكبر أسماء الأدب في القرون الأربعة الأخيرة، فبالعكس، على خلفية الكنز الشعبي المستكشف على نحو صحيح، فإن هذه القرون الأربعة من التطور الأدبي هي ما قد يبدو لنا بالأحرى على أنه نوعي، وبأن لا تشابه لها مع أي شيء كان، أما صور رابليه لسوف تبدو لنا تماماً في مكانها داخل التطور الأَلْفي الذي أنجزته الثقافة الشعبية.إذا كان رابليه الأصعب من بين الكتاب الكلاسيكيين، فلأنه يتطلب، بغية فهمه، الصياغة الجذرية المجددة لكل التصورات الفنية والإيديولوجية، والقدرة على التخلص من العديد من متطلبات الذوق الأدبي المترسخة بعمق، ومراجعة مجموعة من المقولات، وبالخصوص التوغل عميقاً في مناحي الأعمال (المنجزات) الهزلية الشعبية والتي قليلاً ما تم استكشافها، وإن تم ذلك، فبشكل سطحي. نعم، إن رابليه صعب. بالمقابل، فإن أعماله، إن تم فك رموزها على الشكل الصحيح، فإنها سوف تسمح بتسليط الضوء على الثقافة الهزلية الشعبية، الضاربة في القدم بآلاف السنين، والتي كان أبرز متكلم باسمها في الأدب. وهكذا يجب أن تكون رواية رابليه مفتاحاً لأبهى معابد الأعمال الهزلية الشعبية التي قَلَّ ما استكشفت والتي ظلت غير مفهومة تقريباً. وقبل الاقتراب منها، من الضروري امتلاك هذا المفتاح. يعتزم هذا المدخل وضع مشكل الثقافة الهزلية الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة، والإحاطة بأبعادها والتعريف مسبقاً بسماتها الأصلية. ومثلما لاحظنا ذلك للتو، فإن الضحك الشعبي وأشكاله يمثلان الناحية التي قليلاً ما تمت دراستها في الثقافة الشعبية. إن التصور الضيق للطابع الشعبي وللفلكور الذي ظهر في الفترة ما قبل الرومانسية والذي اكتمل أساساً بـهيردير وبالرومانسيين، كان يقصي بشكل شبه كلي الثقافة النوعية للساحة العامة وكذا الضحك الشعبي بكل ثراء تجلياتهما. وحتى منذ زمن قريب، لم يعتبر المختصون في الفلكلور وفي التاريخ الأدبي أن الشعب الذي يضحك في الساحة العامة هو موضوع يستحق الدراسة ولو بقدر قليل من الاهتمام والعمق على المستوى الثقافي، التاريخي، الفلكلوري أو الأدبي. وفي العديد من الدراسات العلمية المكرسة للشعائر والأساطير، وللأثر الشعبي الغنائي والملحمي لا يشغل الضحك قط إلا مكان متواضع جداً. لكن علاوة على ذلك، الأمر المحزن يكمن في أنه، حتى في هذه الظروف، تكون الطبيعة الخصوصية للضحك مشوهة حيث تطبق عليه أفكار ومقولات غريبة عنه على الإطلاق ما دامت قد تشكلت في عهد الثقافة والجمالية البرجوازية للأزمنة الحديثة، وهذا ما يسمح لنا بالقول، دون مبالغة، إن الأصالة العميقة للثقافة الهزلية الشعبية القديمة لم يتم الكشف عنها بعد.ورغم ذلك كان لها أثر وأهمية كبيرة في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة. إن العالم اللانهائي لأشكال الضحك وتجلياته يتعارض مع الثقافة الرسمية ومع النبرة الجدية، الدينية والإقطاعية، هذه الأشكال والتجليات بكل تعددها: مباهج الكرنفال العامة، شعائر وطقوس هزلية خاصة، مهرجون ومغفلون، عمالقة وأقزام ومسوخ، ممازحون من مشارب ومراتب مختلفة، أدب بارودي (محاكاة ساخرة) رحب ومتنوع. لكل هذه الأشكال وحدة أسلوب، وتمثل جوانب من الثقافة الهزلية الشعبية، ونخص بالذكر ثقافة الكرنفال الواحدة، التي لا تقبل القسمة.
توابل - ثقافات
أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية
28-08-2013