فجر يوم جديد: «البيادة» في مواجهة «الأكورديون»!
يخطئ من يتصور أن المخرج التونسي الكبير نوري بو زيد صنع فيلماً عن ثورة الياسمين التونسية في تجربته الأخيرة «مانموتش»؛ فهو يوجه تحية إلى الثورة وشبابها وشهدائها، لكنه يقدم ما يشبه «الوصية» التي يدعو فيها إلى أن تكون ثورة على الغبن الكبير الذي يقع على المرأة التونسية، والعربية عموماً، ويؤكد ثقته المُطلقة في المرأة، ويسجل إعجابه المُفرط بصمودها، وقوة إرادتها، وينتهز الفرصة ليفضح أشكال القهر التي تتعرض لها. حتى بدا وكأنه يربط بين نجاح الثورة التونسية، وأية ثورة، وبين الإعلاء من شأن المرأة، وتصويب وضعيتها، وإزالة المعوقات التي تقف في طريقها وتُهدر كرامتها، ومن دون هذا لن تنجح ثورات ولن تقوم للعالم العربي قائمة!في الفيلم، الذي كتب له الحوار، وشارك في صوغ السيناريو مع جومانا ليمام، يُشير بو زيد، حسب الترجمة العربية لعنوان الفيلم الإنكليزي، إلى «الجمال المخفي» الذي تتمتع به المرأة التونسية،وتكتسب منه هويتها، ويدعو إلى احترام الاختلاف والتعددية ويرى فيهما تأكيداً للخصوصية، ويُحذر بقوة من الانجراف وراء الدعوة إلى تحويل المجتمع إلى «كليشيه» واحد أو صبغه بمسحة دينية!
يبدأ بو زيد قصيدته السينمائية بلقطة مكبرة لـ{بيادة» عسكرية تركل بعنف آلة «الأكورديون» فتطيح بها بعيداً، بينما تحلق مجموعة من الشباب بالعازف الضرير، نوري بوزيد نفسه يتقمص الشخصية، للتخفيف عنه إثر تعرضه لضرب مبرح، وفي اللحظة التي يأتيه أحدهم بآلة «الأكورديون» يحتضنها بحميمية، ويبدأ في العزف مجدداً بعدما نسي جراحه وآلامه. تتعدد الإشارات والدلالات في فيلم «مانموتش»؛ فهو الذي يطالب بأن «نوقد شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام»، وهو الذي ينحاز إلى الحرية المطلقة ويرفض «التابوهات»، ويُصحح المفاهيم الدينية الخاطئة من دون خطابة أو مباشرة؛ فالجد يهدي حفيدته «عائشة» المحجبة في عيد ميلادها كتاباً يحمل عنوان «حيرة مسلمة»، في اعتراف منه بأن الحيرة تتملك الفتاة العربية؛ فالمحجبة، التي ماتت أمها وتزوج والدها فتفرغت لإعالة شقيقتيها، تعاني التضييق نفسه الذي يطاول «زينب» السافرة، التي حملت على عاتقها مسؤولية رعاية أمها ووالدها في غياب شقيقها، الذي اعتقل في ظل النظام السابق، ولما عاد حقر من شأنها، وكفر عملها في تصميم الأزياء، بحجة أنها من «تصميم الشيطان»! إنه التضييق نفسه، والتفكير العقيم ذاته، الذي تصورت «زينب» ومعها «عائشة» أنهما سقطا بسقوط النظام القديم وقيام الثورة، لكن يبدو ألا شيء تغير، وأن القادم أسوأ في وجود «تيار» يأبى أن يتنسم الناس عبير الحرية، ويذهب الخوف من حياتهم، ويصرخون بما في نفوسهم، وهو الخطر الذي يُحذر منه بوزيد في فيلمه الجريء، الذي يهاجم تيار الإسلام السياسي بضراوة، ويؤكد أن السجون والمعتقلات زرعت في نفوسهم «الحقد» و{القسوة»، وكراهية المجتمع وتكفير أفراده، لكن سيناريو الفيلم يفضح أيضاً الفصائل الليبرالية واليسارية، التي لا تستنكف الدخول في تحالف مع التيار الديني المتشدد، ولا تتردد في عقد صفقات معه، وتمويله إذا لزم الأمر!من هنا بدا المشهد بالغ الدلالة عندما أيقن «إبراهيم» خطيب «زينب»، الذي درس في فرنسا بلد الحرية والليبرالية، أن زمام الأمور آلت إلى شقيقها المتزمت دينياً وجماعته المتطرفة، فيطالبه في انتهازية كريهة بأن يُجبر شقيقته على ارتداء الحجاب، وترك وظيفتها كمضيفة في كافتيريا، وعلى الفور يوافق «المتزمت»، الذي يؤمن بأن «المرأة مكانها البيت»، وأن «الحجاب فرض على كل امرأة مسلمة»، بل يلوم والده لأنه لم يُجبر أمه على ارتداء الحجاب في شبابها!لا ننكر أن سيناريو فيلم «مانموتش» شابه بعض التطويل، بسبب اتجاهه إلى تأكيد المعنى نفسه، لكن مشاهده كانت تهمس بالشجن وتشي بالحزن، وتعكس المأساة التي تعيشها المرأة العربية، التي تطاردها «العنوسة» وتواجه التطرف والمجتمع الذكوري معاً، إلى جانب المحاولات المستمرة لتهميشها وانتهاك جسدها وتقييد حريتها وتجريدها من استقلالها، وقتل بذور التمرد في داخلها تمهيداً لإجبارها على تنفيذ ما يُملى عليها فحسب. وهو المخطط الذي تتحداه بجرأة وإصرار «زينب» و{عائشة»؛ فالأولى تستميت في الدفاع عن وجهة نظرها في ألا ترتدي الحجاب، بينما الثانية تكاد تُصاب بلوثة لحظة الإقدام على خلعه عنها، وكل منهما تنتصر لإرادتها ولا تتخلى عن الأمل في واقع جديد لا تُصبح فيه فريسة للرجل أو ضحية لقهره، وكل منهما تُعلي من قيمة العمل بدلاً من الاستجداء والتسول وانتظار ما يجود به الرجل من عطايا وحسنات، فالخيبة التي انتابتهما لأن الشارع ما زال يفرض حصاره ولم ينجح في حمايتهما بعد الثورة، كما كان متوقعاً، لم تمنعهما من مواصلة الحلم ورفض الأبواب المغلقة والإملاءات والقمع باسم الدين، وواصلا تمردهما لتؤكدا على الملأ أن «النظام» يسقط إذا سقطت النظرة المتدنية إلى المرأة العربية، و{الثورة» تنجح يوم أن تنال حريتها وتستعيد كرامتها، كما استعادت «زينب» و{عائشة» آلة «الأكورديون» قبل أن تضيع في مقلب النفايات!