عندما انهار بنك الاستثمار الأميركي "ليمان براذرز" في عام 2008، فأدى ذلك إلى اندلاع أسوأ أزمة مالية عالمية منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، بدا الأمر وكأن إجماعاً واسعاً نشأ حول الأسباب التي أدت إلى الأزمة، فقد أساء النظام المالي المتضخم المختل تخصيص رأس المال، وكان بدلاً من إدارة المخاطر يتسبب في نشوئها، كما أسهم إلغاء القيود التنظيمية- جنباً إلى جنب مع المال السهل- في تشجيع الإفراط في خوض المجازفات.

Ad

وسوف تكون السياسة النقدية غير فعّالة نسبياً في إنعاش الاقتصاد، حتى لو كان بوسع المال الذي ظل سهلاً أن يمنع الانهيار الكامل للنظام المالي، وبالتالي فإن الاعتماد بشكل أكبر على السياسة المالية- زيادة الإنفاق الحكومي- سوف يكون ضرورياً.

بعد مرور خمس سنوات، ورغم أن البعض يهنئون أنفسهم على تجنب فترة أخرى من الكساد، فلا يستطيع أحد في أوروبا أو الولايات المتحدة أن يزعم أن الازدهار قد عاد، فقد بدأ الاتحاد الأوروبي يخرج الآن بصعوبة من الركود المزدوج (وفي بعض البلدان الركود الثلاثي)، ولا تزال بعض الدول الأعضاء تعاني الكساد. وفي العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي، يظل الناتج المحلي الإجمالي أدنى، أو أعلى قليلا، من مستويات ما قبل الركود، ويعاني نحو 27 مليون أوروبي من البطالة.

وعلى نحو مماثل، في الولايات المتحدة يعجز 22 مليون أميركي راغب في العمل بدوام كامل عن العثور على وظيفة بهذا الوصف. كما انخفضت المشاركة في قوة العمل في الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ بدء النساء بدخول سوق العمل بأعداد كبيرة، وأصبح دخول أغلب الأميركيين وثرواتهم أدنى من المستويات التي كانت عليها قبل فترة طويلة من الأزمة، بل إن دخل العامل الذكر القياسي أصبح أدنى مما كان في أكثر من أربعة عقود من الزمان.

صحيح أننا اتخذنا بعض التدابير لتحسين الأسواق المالية، فالآن هناك بعض الزيادات في متطلبات رأس المال- لكنها أقل كثيراً من المطلوب. وتم عرض بعض المشتقات المالية الخطرة- أسلحة الدمار الشامل المالية- للتداول في أسواق الأوراق المالية، الأمر الذي أدى إلى زيادة شفافيتها والحد من المخاطر النظامية؛ ولكن لا تزال كميات ضخمة منها تتداول في الأسواق الغامضة غير الرسمية، وهذا يعني أن معرفتنا ضئيلة حول مدى تعرض بعض أضخم مؤسساتنا المالية للخطر.

وعلى نحو مماثل، نجحنا في الحد من بعض الإقراض الجشع والتمييزي وممارسات بطاقات الائتمان الاستغلالية؛ ولكن بعض الممارسات التي لا تقل استغلالاً لا تزال مستمرة. ولا يزال الفقراء العاملون عُرضة للاستغلال بقروض ربوية في يوم دفع الرواتب. ولا تزال البنوك المهيمنة على السوق تفرض رسوماً باهظة على معاملات بطاقات الائتمان يتحملها التجار، الذين يضطرون إلى دفع الكثير مما يفترض أن تتحمله أي سوق تنافسية حقاً، وهذه ببساطة شديدة ضرائب تذهب عائداتها لإثراء الخزائن الخاصة بدلاً من خدمة أغراض عامة.

وهناك مشاكل أخرى ظلت بلا علاج، وبعضها تفاقم سوءاً، وتظل سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة تعيش على أجهزة دعم الحياة: فالحكومة الآن تتعهد بتمويل أكثر من 90% من كل قروض الرهن العقاري، ولم تقترح إدارة الرئيس باراك أوباما أي نظام جديد كفيل بضمان الإقراض المسؤول بشروط تنافسية. وأصبح النظام المالي أكثر تركزاً، الأمر الذي أدى إلى تفاقم مشكلة البنوك التي ليست أكبر وأكثر تشابكاً وارتباطاً من أن يُسمَح لها بالإفلاس فحسب، بل إنها أيضاً أكبر من أن تُدار بنجاح ويتم تحميلها المسؤولية عن تصرفاتها، فرغم الفضائح تلو الفضائح، من غسيل الأموال والتلاعب في السوق إلى التمييز العنصري في الإقراض وعمليات حبس الرهن غير القانونية، لم نشهد مساءلة أي موظف كبير؛ وعندما تم فرض العقوبات المالية فإنها كانت أصغر مما ينبغي، خوفاً من تعريض المؤسسات المهمة نظامياً للخطر.

وقد خضعت وكالتان من وكالات التصنيف الائتماني للمساءلة في اثنتين من الدعاوى القضائية الخاصة، ولكن هنا أيضاً لم تتحمل أي منهما سوى جزء بسيط من الخسائر الناجمة عن أفعالهما. والأمر الأكثر أهمية هو أن المشكلة الأساسية- نظام الحوافز الضارة الذي تدفع الشركات الخاضعة للتصنيف لهذه الوكالات- لم تتغير حتى الآن.

ويتباهى المصرفيون بأنهم سددوا بالكامل أموال الإنقاذ الحكومية التي تلقوها عندما اندلعت الأزمة، ولكن يبدو أنهم لا يذكرون أبداً أن كل من حصل على قروض حكومية ضخمة بأسعار فائدة تقترب من الصفر كان بوسعه أن يجمع المليارات ببساطة بمجرد إقراض الحكومة نفس الأموال، ولا يذكرون التكاليف المفروضة على بقية الاقتصاد- الخسائر التراكمية في الناتج في أوروبا والولايات المتحدة والتي تجاوزت 5 تريليونات دولار أميركي.

وفي الوقت نفسه، تبين أن أولئك الذين زعموا أن السياسة النقدية لن تكون كافية كانوا محقين. صحيح أننا جميعاً تبنينا أفكار جون ماينارد كينز في هذا الصدد، ولكن لفترة وجيزة للغاية، فقد استعضنا عن الحوافز النقدية بالتقشف، مع ما ترتب على ذلك من تأثيرات سلبية متوقعة على الأداء الاقتصادي.

ويعلن البعض في أوروبا سرورهم بأن الاقتصاد ربما بلغ منتهى اتجاهه الهابط، ومع العودة إلى نمو الناتج، فإن الركود- المعرف بوصفه ربعين متتاليين من الانكماش الاقتصادي- انتهى رسمياً. ولكن بأي منطق معقول، لا نملك إلا أن نصف الاقتصاد حيث لا تزال دخول أغلب الناس أدنى من المستويات التي كانت عليها قبل أزمة 2008 بأنه لم يخرج من الركود بعد. وأي اقتصاد يعاني 25% من عماله (و50% من شبابه) من البطالة- كما هي الحال في اليونان وإسبانيا- فمن المؤكد أنه لا يزال كاسداً. لقد فشل التقشف، وليس هناك أي احتمال للعودة إلى التشغيل الكامل للعمالة في أي وقت قريب (وليس من المستغرب أن تكون التوقعات بالنسبة إلى أميركا، حيث النسخة الأكثر اعتدالاً من التقشف، أفضل كثيراً).

لعل النظام المالي أصبح أكثر استقراراً مما كان عليه قبل خمس سنوات، ولكن هذا هو الحد الأدنى- فآنذاك كان النظام المالي يترنح على حافة الهاوية. ويتعين على أولئك في المؤسسات الحكومية والقطاع المالي الذين يهنئون أنفسهم بعودة البنوك إلى تحقيق الأرباح والتحسن التنظيمي الطفيف- ولو كان ذلك بشق الأنفس- أن يركزوا على ما لا يزال من الواجب القيام به، فالكوب ربعه مليء على الأكثر؛ وفي نظر أغلب الناس فإن ثلاثة أرباعه فارغ.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»