كنت في التاسعة عشرة من عمري عندما ذهبت إلى سينما «ميامي» في وسط القاهرة، لأشاهد فيلماً من أفلام {مهرجان القاهرة السينمائي} الذي كان يحظى وقتها بإقبال جماهيري منقطع النظير، وفوجئت بالجموع المحتشدة أمام باب قاعة العرض تجتاح في طريقها وكأنها الطوفان، من قطع تذكرة الدخول بالفعل ومن ينتظر، ونتيجة للتدافع الرهيب تحطّم باب القاعة الزجاجي، وتناثرت شظاياه لتصيب الضحايا الذين سقطوا على الأرض، وداستهم الأقدام!      

Ad

يومها دفعت، وآخرون، ثمن حبنا للسينما؛ حيث أصبت في كف يدي ومعصمي، وتم نقلي وأنا أنزف دماً إلى نقطة الإسعاف القريبة من دار العرض، وأجريت لي الإسعافات الأولية، لكنني لم أبرأ من عشق السينما وكأنني أدمنتها، وظلت المهرجانات السينمائية مرتبطة في ذاكرتي بحجم إقبال الجماهير على شباك التذاكر واحتشادها خارج دار العرض، في انتظار من يأذن لها بالدخول لممارسة طقس الفرجة الجميل.

هكذا كانت الحال قبل أن أفاجأ، في الأعوام القليلة الماضية، بمهرجانات تخاطب الصفوة، وتقتصر على أهل المهنة، وتتجاهل الجمهور، وربما تزدري رجل الشارع البسيط، وكانت بداية المأساة على يد الإدارة السابقة لمهرجان القاهرة السينمائي، التي نظمت، برعاية وزير الثقافة، الدورة الخامسة والثلاثين خلف أسوار الأوبرا، وحظرت إقامة أي عروض داخل الصالات التجارية المخصصة للجمهور، الذي يُفترض أنه المستهدف من تنظيم أي مهرجان في العالم!

كنت أظنها هفوة لن تتكرر لكنني فوجئت بإدارة الدورة التاسعة والعشرين لـ {مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض البحر المتوسط}، التي أقيمت في الفترة من 9 إلى 13 أكتوبر، تستبعد، تماماً، شاشات العرض التجارية، وتقصر العروض على المراكز الثقافية، بالإضافة إلى شاشتي عرض في الفندق المخصص لإقامة ضيوف المهرجان، وتعرض الأفلام بتقنية الـ D.V.D فقط، ما يعني فعلياً تأييد القرار المتعسف بعزل الجمهور، وكأنه مُصاب بمرض مُعدٍ، وسجن المهرجان خلف القضبان، ما يتنافى مع الهدف من تنظيم أي مهرجان، وعدم الاعتراف بغير النخبة!

المدهش أن لائحة مهرجان الإسكندرية تنص في بندها الأول على أن المهرجان {حدث سنوي يُعقد في مدينة الإسكندرية، ويهدف إلى نشر الثقافة السينمائية، والتعريف بمدى التقدم الذي أحرزته الفروع المختلفة للفن السينمائي}، فأي ثقافة سينمائية تلك التي يتم نشرها في غياب الجمهور؟ وكيف يُقاس مدى تقدم الفروع المختلفة للفن السينمائي من خلال أفلام تُشارك في تظاهرات المهرجان، لكنها تقتصر على الصحافيين والنقاد وأهل صناعة السينما؟

قيل، بالطبع، إن حظر العروض التجارية يعود إلى أسباب أمنية لكنها ذريعة واهية، في رأيي، كانت تحتاج إلى مزيد من الجهد من إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي، وإدارة مهرجان القاهرة قبل ذلك، لإقناع السلطات الأمنية بأن وجود الجمهور في العروض والفعاليات ضرورة، وأن مهرجاناً يُقام من دون جمهور يُقلل من بريقه، ويخصم من رصيده، وينسف الهدف من وجوده، وهو ما حدث في الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان الإسكندرية السينمائي، التي عانت من ضعف الإقبال الجماهيري، باستثناء عدد محدود من «مجانين السينما»، الذين يُصرون على ملاحقة عروض الأفلام حتى لو كانت تُنظم في المراكز الثقافية، التي تستقطب نوعية خاصة من الجمهور، ويخشى رجل الشارع البسيط الاقتراب منها، أو مطاردة «النجوم» في مقر إقامتهم، وفي ندوات تكريمهم!

لا يعني هذا، بكل تأكيد، المطالبة بتأجيل إقامة المهرجانات السينمائية المصرية أو إلغائها في حال استمرار الظروف السياسية والأمنية غير المستقرة، بل الإصرار على وجودها، والنظر إليها بوصفها أداة فاعلة للقضاء على حال الانقسام والشرذمة، ونبذ الفرقة والتشتت، مثلما هي وسيلة ناجحة لتمرير رسالة بأن السينما تجمع الشعوب، وتمحو الكراهية من القلوب وتوحد الصفوف، وفي أحيان كثيرة تنجح المهرجانات في ما تفشل فيه الحكومات والأجهزة الأمنية، بينما تؤصل فكرة إقصاء الجمهور حال الكراهية، وتكرس عزلة المهرجانات وانفصالها، ووصمهابأنها مهرجانات النخبة التي لا ينبغي أن يرتادها الدهماء والفقراء!

من هنا ينبغي على إدارة «مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض البحر المتوسط» أن تنظر إلى ما جرى في الدورة التاسعة والعشرين، من حظر جماهيري، بوصفه «حدثاً عارضاً» لن يتكرر، وعليها، وإدارات المهرجانات الأخرى، بذل قصارى جهدها كي تضع الجمهور على رأس أولوياتها وتوجهاتها، وتُدرك أن مقياس نجاح أي مهرجان سينمائي لا يتوقف على كمّ الأفلام المعروضة في تظاهراته، أو عدد النجوم الذين يلبون الدعوة للمشاركة في فعالياته، لكن النجاح يُقاس بحجم اندماج الجمهور في أيامه ولياليه، واعتباره جزءاً من كيان المهرجان وليس عضواً دخيلاً عليه!