ثقافة الواقع وواقع الثقافة!

نشر في 11-06-2013
آخر تحديث 11-06-2013 | 00:01
 طالب الرفاعي في تاريخ الخامس من يونيو الفائت كتبت على موقعي في "تويتر" رأياً يقول: "في بلادنا العربية الإبداع يحوي السياسة، لكن السياسة تنفر من الإبداع والثقافة". وخلال ثوان جاءني رد من أحد الإخوة يقول بالحرف الواحد: "الله يحفظك يا دكتور... إخوانك تنذبح في القصير وأنت تتحدث الثقافات! يا أخي ارتقي بثقافتك شوي"، وأنا هنا أنقل الرد كما جاءني دون أي تدخل. وإذا كان بعض الأصدقاء المتابعين لحسابي في "تويتر" قاموا مشكورين بالرد على الأخ المتداخل نيابة عني، فإن الفكرة شغلتني، خاصة أن لقاء صدفة جمعني في اليوم التالي مع زميل مهندس عمل معي في المواقع الإنشائية، وعاتبني بنبرة محبة: "يا طالب، تترك عمل المقاولات والفلوس وتروح للثقافة!"، ولأنه راح ينظر إليّ ينتظر رداً مني، بينما كنت أنتظر منه أن يكمل جملته، أضاف موضحاً: "يا أخي أنت أخبر مني، الثقافة ما تجيب فلوس".

هذان الموقفان أثارا الكثير من الألم في نفسي، فبالنسبة لرد الأخ الأول يتضح بجلال الفهم الشعبي لانعزال الثقافة عن الواقع، وأنها تعني بين ما تعني أمراً كمالياً زائداً على الحياة. أما بالنسبة لصديقي المهندس، فإن المادة/النقود تعني له أساس الحياة، وأن الابتعاد عنها والانشغال بأمر لا يدر مالاً يعني بالقول العامي "قلة عقل".

إن أوضاع أقطار العالم العربي، وإذا كنا متفائلين وقلنا منذ هزيمة حزيران 1967، وما تبعها من انكسار للمبدع والمثقف، وتضييق وملاحقة من قبل أنظمة الحكم الدكتاتورية له، جعلت دور المثقف هامشياً في الحياة. حياة مواطن لا يجد قوت يومه، وينشغل بهم إعالة أسرته وتربية أبنائه ليس في جلّ يومه، بل وعلى امتداد عمره كله!

لقد لعب إعلام أنظمة الحكم القمعية التسلطية الدكتاتورية، وعلى امتداد عقود من الزمن، دوراً أساسياً في تكريس مقولة "كل شيء من أجل المعركة". وكان المقصود معركة تحرير فلسطين، لكن القضية الفلسطينية زادت تعقيداً وسوءاً يوماً بعد يوم، ومعها زاد وضع المبدع والمثقف تهميشاً وتضييقاً وحرباً، انتهت ببعض المبدعين إلى السجن والموت.

لا يمكن لمجتمع أن يرتقي فيه شأن الثقافة إن هو لم يجعل من الثقافة زادا لأطفاله منذ نعومة أظفارهم. فكيف بمجتمعات عربية، تصل نسبة الأمية فيها إلى ما يزيد على الستين في المئة، وكيف بمجتمعات يعيش معظم شعوبها تحت خط الفقر، وكيف بمجتمعات لا تعرف الحرية، وكيف بمجتمعات تعيش خنوعاً يلازمها طوال حياتها، فمن أين لهذه المجتمعات أن تتنفس إبداعاً وتعيش ثقافة؟!

إن الثقافة في تعريفها البسيط هي كل متكامل من المعرفة البشرية، يتكون عبر تراكم زمني، وبما يعني أنها ميراث اجتماعي. وأن كل جيل يورّث آراءه وقناعاته للجيل الذي يليه، وبالتالي فإن ثقافة أي مجتمع هي نتاج لوعي جمعي تشكل عبر عقود وعقود. ولأن وعي جمعي عربي يرى في الثقافة أمراً كمالياً وبطراً زائداً لا يصلح للحظة الموجعة التي يعيشها الوطن والمواطن العربي، فلقد نشأ وعي اجتماعي مقتنع بعزلة المبدع والفنان والمثقف، ويرى في ممارسته الحياتية انعزالاً عن الواقع. وهذا ما يفسر رد الأخ على تغريدتي في "تويتر"، ووجهة نظر صديقي المهندس.

صحيح أن الثقافة جهد فكري ليس في متناول الجميع، لكن الصحيح أيضاً أنها عماد أي مجتمع، فالثقافة هي روح أي مجتمع، والتحضر هو الآلية التي يمارس من خلالها المواطن قناعاته الفكرية، وهي في المحصلة تعمّ مجمل مظاهر الحياة الروحية والأخلاقية التي تسود أي مجتمع من المجتمعات.

نعم نحن بحاجة للنظر إلى واقع ثقافتنا المؤلم، وثقافة الواقع المؤلمة أكثر.

back to top