غادر مدينة "قصر شبيب" ،التي كان دَخَلها من طرفها الشمالي قبل بزوغ شمس ذلك اليوم.. كان التعب يهده هداً وكان يشعر بوخزة في صدره، ،كطعنة الخنجر، كلما تذكر كومة الأطفال الذين ينتظرونه في البيت والذين لا يحمل لهم في "خُرج" فرسه المهدود الحيل أيضاً سوى القليل من الحلوى و"صندلاً" بلاستيكياً للكبير منهم فقط.

Ad

وصل إلى الكتف المطل على سيل الزرقاء من الجهة الجنوبية ،بينما كانت الشمس قد آوت نهائياً إلى كهفها خلف الجبال الغربية التي بدأت تظهر عند دغشة الغروب كحيوانات إسطورية عملاقة.. ترجل من فوق "مَعْرَقةِ" فرسه وهبط عبر طريق ضيق شديد الوعورة نحو قناة الماء التي تقابل "عين النِّمرة" من الجهة الحنوبية.

فرد عباءته وصلى خمس ركعات وعندما رأى فرسه تواصل قضم ما تبقى من أعشاب نابتة على حافتي القناة توسد ذراعه بعد أن إنتهى من تدخين لفافة "الهيشي" المحرقة ثم راح في غفوة عذبة رأى خلالها كما يرى النائمون في الأحلام نسراً عملاقاً يُحوِّم عالياً في السماء ويهبط رويداً رويداً.. لقد إقترب النسر العملاق أكثر وأكثر.. ثم إنقض عليه بسرعة طائرة مقاتلة تنقض على هدف أرضي وأنشب مخالبه في "مَزْنوكِهِ" عند منطقة الظهر وصعد به عالياً ثم إتجه نحو الغرب وبقي النسر العملاق يحلق وهو يتدلى من مخالبه نحو الأرض وحالته بين الحياة والموت.

أحسَّ بأن الرحلة كانت بطول الدهر كله.. وعندما هبط به النسر وتركه في وسط ذلك السهل المترامي الأطراف شعر بأنه يعرف هذا المكان وأنه غير غريب عن هذه المنطقة.. لقد كان في الصيف قبل الماضي ،كما في معظم الأعوام، مع "شَلِيَّة" أغنامه البيضاء هنا في "مرج بني عامر" حيث كان رعاة أغنام قبيلته في تلك السنوات التي لا تعرف الحدود بين فلسطين والأردن يقضون أيام الربيع في الصحراء عبر النهر الخالد نحو الشرق ويقضون شهور الصيف مع قطعانهم عبر هذا النهر نفسه نحو الغرب وفي هذه المنطقة الغزيرة المياه والخصبة المراعي واللطيفة المناخ في الليل والنهار.

تلفَّت حوله ،بعد أن توقفت خفقات قلبه وذهبت القشعريرة عن جسده وأطرافه، فرأى مدينة الناصرة بأضوائها ،التي بدت هذه المرة حزينة وخافتة، تُطلُّ على مرج بني عامر من الشمال وعند أقدامها رأى بصيص قرية "إبسال" وإلى الشرق قليلاً رأى "كُوبَّانية" العفولة اليهودية.. حاول الوصول بنظره إلى جنين في الجنوب لكنه لم يرَ شيئاً.. شعر بشيء من السعادة وأحسَّ بالكثير من الألفة فأبناء قبيلته إعتادوا المجيء بقطعان أغنامهم في صيف كل عام إلى هنا.. فيُستقبلون بكرم الضيافة وبحرارة الأخوة وبحنان الأشقاء وأبناء العمومة.

..آه ما أحلى هذه الأرض وما أطيبها وما أكرم أهلها.. تذكر الذين عرفهم والذين أصبحوا أصدقاءً له يراهم ويرونه في صيف كل عام.. لقد تذكر وجيهاً جليلاً من أهل هذا السهل الخصب المُنداح المسافات قال له في صيف العام قبل الماضي :"..ربما لن نراكم في هذه المنطقة بعد الآن.. فاليهود ملأوا البلاد.. والحرب قادمة.. والله يستر".

شعر وهو يغرق في كوابيس حلمه بصوت داخل أذنه اليسرى يشبه أزيز رصاصة منطلقة للتو من فوهة بندقية.. وأحس بأن النسر العملاق يحاول الدخول من فتحة أذنه إلى جمجمة رأسه.. رفع يده اليسرى ليضرب النسر ويبعده عن رأسه.. لقد وقعت الضربة على صدغه لكنها لم تقتل البعوضة اللعينة التي كانت تهاجم فتحة أذنه بإصرار ووحشية فانتفض كمن لدغته أفعى وخرج من لجة حلمه الكابوسي الطويل فوجد أن الليل قد تناصف وأن غفوته إمتدت لساعات وأن فرسه لا تزال تنهمك في قضم أعشاب حافتي قناة الماء.

أطلق تنهيدة عميقة وهو يحاول إخراج كيس "الهيشي" من جيب "مَزْنوكه".. شعر بحزن شديد وتمنى لو أن حلمه كان حقيقة.. لقد تذكر مرج بني عامر وليالي الصيف الجميلة التي كان يقضيها رعاة القبيلة هناك في كل عام.. أكمل لفَّ سيجارة "الهيشي" ومجَّ منها مجة طويلة.. ثم نهض ودمعة ساخنة تنهمر من مقلة عينه اليمنى وسحب فرسه من رسنها وإنحدر نحو سيل الزرقاء قاصداً بيته المصنوع من شعر الماعز فوجد أن أطفاله الذين إنتظروه طويلاً.. قد غلبهم النوم وأنهم لن يروه ولن يفرحوا بما جاء به في "خُرج" فرسه إلاَّ في الصباح.