ما بين مصر و«الجزيرة»
يحق لـ"الجزيرة" بالطبع أن تنتشي وتشعر بالفخر الشديد؛ فها هي تشارك دولة هي الأعرق بين بلاد الدنيا في عنوان هذا المقال، وها هي تنهض باستراتيجية كاملة إزاء الأوضاع في مصر، وتؤثر فيها تأثيراً قوياً، ربما بشكل يعز على حكومات دول كبيرة، أن تحقق مثله.منذ انطلقت "الجزيرة" في عام 1996 وهي تسجل الاختراقات واحداً تلو الآخر؛ إذ كانت تلك الفضائية هي الأكثر تمتعاً بالموارد المالية، والأكثر توظيفاً للكفاءات، والأكثر حرية في تناول قضايا وفتح ملفات بعينها، طالما كانت تلك القضايا تخص دولاً لا تتوافق سياساتها مع وجهة نظر الحكومة القطرية، أو تتلعق بملفات تريد الدوحة أن تفتحها وتسلط الأضواء عليها.
لقد أعطت "الجزيرة" الإعلام العربي الكثير، كما خدمت المواطن العربي خدمات واضحة؛ إذ حركت الركود الواضح في بركة الإعلام العربي، وضغطت على وسائل الإعلام المملوكة للدول بجرأة شديدة، فسحبت بعضها إلى مزيد من الانفتاح، وأسمعت الجمهور أصواتاً حُكم عليها بالغياب طويلاً، وفتحت ملفات لم يكن أحد يريد أن يفتحها، وأنتجت نجوماً ظلوا مؤثرين إلى يومنا هذا، وكرست طريقة بات هناك كثيرون يسعون إلى تقليدها.لكن النجاح الذي حققته "الجزيرة" لم يكن ليصب فقط في مصلحة الإعلام العربي وجمهوره من المحيط إلى الخليج، ولم يكن مكرساً فقط لخدمة الحقيقة، ولكنه كان مثله مثل أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، يستثمر جهداً وموارد بغرض تحقيق عوائد معينة.لقد كانت العوائد المطلوب تحقيقها واضحة أشد الوضوح. لم تكن "الجزيرة" مصدر إلهام خيري يراد له أن يحرر الممارسة الإعلامية العربية، ويخدم المظلومين والمهمشين، ويناضل من أجل قضايا الأمة ثم يرحل بلا ضجيج، مفضلاً الإيثار والانزواء والتعالي على المصلحة.لكن "الجزيرة" كانت ذراعاً إخبارية لمشروع الدولة القطرية الأهم والأخطر... أي مشروع "التحصن من أجل البقاء وسط الكبار"، وهو المشروع الذي تحول لاحقاً، بعد نجاح الجزء الأول منه، إلى "التوسع أفضل من البقاء عند الحدود الراهنة، والهجوم خير وسيلة للدفاع".تدرك قطر أنها دولة بلا عمق استراتيجي مناسب، وأن عدد سكانها أقل من أن يعطي شعوراً بالاطمئنان للمستقبل، وأن ثرواتها الضخمة من تصدير المحروقات تغري بها بقدر ما تحقق لها النفوذ والثراء، وأن كتلتها الحيوية لا تمكنها من خوض منازلات مع جيرانها الأقوى والأكبر والأكثر تمركزاً في التاريخ.لذلك، فقد سعت الحكومة القطرية إلى تطوير أدوات قوة ونفاذ يمكن أن تجبر بها عوار الواقع، وأن تردم بها فجوات مع المتناظرين وغيرهم، ومن تلك الأدوات، وعلى رأسها جميعاً، كانت "الجزيرة".كانت لقطر رؤية حيال مصر؛ بعضها يعود إلى عوامل شخصية تجاه الرئيس الأسبق حسني مبارك وعائلته، وبعضها الآخر ربما يعود إلى مشروع سياسي كبير يرى أنه بالإمكان التوازن مع الآخرين في كتلتهم الحيوية عبر خيار تقليص ما يمتلكون وليس فقط عبر مضاعفة ما تمتلك.لذلك، فقد خاضت "الجزيرة" معركة ثورة 25 يناير كأحد أبرز الثوار وأكثرهم فاعلية على الإطلاق. يمكنك القول إن أطقم "الجزيرة" التي كانت تغطي ما يحدث سواء في القاهرة أو الدوحة كانت "تقاتل" من أجل إطاحة مبارك. نجحت "الجزيرة" في خطوتها الأولى إزاء مبارك، ثم راحت تستخدم نيران مدفعيتها الثقيلة ضد المجلس العسكري، الذي أنشأت في عهده "الجزيرة مباشر مصر"، وكرستها تقريباً لبث فوري لكل ما يزعج هذا المجلس ويخلخل سلطته، ضمن برامج أخرى معدة جيدا بالطبع ومنفتحة على أكثر من فصيل.لكن عندما وصل "الإخوان" وحلفاؤهم في اليمين الديني المتشدد إلى السلطة كانت "الجزيرة" قد قررت التخلي عن آخر ورقة توت تستر بها عوراتها المهنية التي تكاثرت إلى حد كبير، وراحت تعمل ببساطة كأداة دعاية مباشرة لتنظيم "الإخوان".سيكون من الصعب جداً تصديق ما فعلته "الجزيرة" في ذلك الصدد لاحقاً، فلم تترك تلك القناة، التي تمتلك تاريخاً ونفاذا عالمياً، وأدلة سلوك مهني، ووحدة مراقبة جودة، وكوادر بشرية محترفة، أي خطأ أو انحياز تحدثت عنه الأكاديميات الإعلامية إلا ارتكتبه. مارست "الجزيرة مباشر مصر" سلوكاً إعلامياً مشابها لهذا الذي اعتادته وسائل الإعلام الليبية الرسمية في عهد القذافي، وتعاملت مع قادة "الإخوان" كما كان الإعلام الرسمي العراقي يتعامل مع صدام حسين، وهاجمت معارضيهم كما كانت وسائل الإعلام السورية الرسمية تفعل إزاء معارضي بشار الأسد، ولم تترك أياً من "تكنيكات" الدعاية السوداء التي مارسها الإعلام النازي في عهد هتلر أو الإعلام الشيوعي في عهد ستالين إلا واستخدمتها.يقاتل مذيعو "الجزيرة مباشر مصر" على الهواء قتالاً مريراً من أجل "مرسي والذين معه"، ويشتمون الضيوف إذا دافعوا عن الطرف الآخر، أو يهددون بطردهم. يبكي مذيعو "الجزيرة مباشر مصر" تأثرا بـ "ضحايا" التنظيم، ويضربون الموائد بالقبضات الغاضبة، ويدللون الجمهور المناصر لـ"الإخوان"، ويعتبرون أن ما يقوله حقيقة لا تقبل الدحض، وبعد وصلات المديح فيهم، يقوم زملاؤهم بوضع ما قاله هذا الجمهور على شريط الأخبار باعتباره "حقائق وانفرادات خاصة".لم تكن "الجزيرة العربية" قادرة على التورط في مثل هذا المستنقع بسبب طبيعة جمهورها الذي يتعرض بالضرورة لوسائط أخرى أكثر احتشاماً في نقل الأحداث المصرية، لهذا فقد وقفت عند حد الكذب عبر السكوت عن الحقائق المعاندة، وتقديم الرأي على أنه حقيقة، والتشويه الخفيف للحقائق، والاختيار المنحاز للمصادر، وتجاهل القصص التي تصب في غير مصلحة "الإخوان"، وتركيز الضوء على كل ما يزعزع الاستقرار في مصر أو تضخيمه واختلاقه أحياناً.أما "الجزيرة الدولية"، فقد كانت الضغوط عليها أكبر، بالنظر إلى طبيعة منافسيها، وقدرة مشاهدها على التزود بالأخبار والمعلومات من مصادر أكثر احترافية، لكنها مع هذا لم تقصر في محاولة مساندة "الإخوان" عبر أنماط انحياز "ذكية"؛ مثل تقديم أنصاف الحقائق والتركيز على انتهاكات السلطات وغض الطرف عن "الإرهاب" الذي يمارسه "الإخوان" وحلفاؤهم.صرخت الحكومة المصرية وراحت تشكو وتطالب بقليل من الإنصاف، خاصة أن قطر شريكة بشكل أو بآخر في التطورات المصرية الأخيرة؛ سواء عبر المليارات التي ضختها خلال حكم "الإخوان" أو من خلال وجودها في محاولات التوسط بينهم وبين الحكومة المصرية أو بسبب موقعها المؤثر في النظام السياسي العربي.وعدت قطر خيراً، لكنها لم تف بعهدها، وظلت "الجزيرة" تشن هجماتها الساحقة على الدولة المصرية فتشير إلى "اهتزازها وقرب انهيارها"، وتتحدث عن الاقتصاد فتوضح أنه "أوشك على التهاوي"، وتتناول الجيش الوطني، فتنقل ما "يغري جنوده وضباطه بالانشقاق"، وتتحدث عن قادة الدولة ورموزها، فتسمح "بسبهم وتجريحهم".لم تتوقف "الجزيرة مباشر مصر" عن تلفيق الصور والفيديوهات، ولا عن استخدام اللجان الإلكترونية في حرف رسائل الجمهور، ولا عن تضخيم صورة التظاهرات أو اصطناعها في الأساس، ولا عن إتاحة المجال لبث أكاذيب على أنها حقائق في وقائع شهيرة تم توثيقها على أي حال.السلطات المصرية من جانبها لم تقصر، فقد عاندت في إعطاء ترخيص لـ"الجزيرة مباشر مصر"، وهاجمت مقرها، وصادرت المعدات غير المصرح بها، وأوقفت بعض العاملين فيها.بات قطاع كبير من المصريين الآن يشعر بمرارة شديدة من أداء "الجزيرة"، وبات من الصعب جداً أن يقبل صحافي العمل بها بعدما استقال أكثر من 25 صحافياً مصرياً من العمل بها بسبب "تغطيتها المسيئة"، بل إنه بات من الصعب أيضا أن تجد "الجزيرة" ضيوفا مصريين في بعض الأحيان، رغم أنها رفعت مكافأة الظهور على شاشتها أكثر من مرة.كانت تغطية "الجزيرة" للأحداث في مصر شائنة، وربما هدفت إلى الوصول بهذا البلد إلى وضع لا يخدم المصريين ولا الأمة العربية، وكان سلوك السلطات المصرية إزاء "الجزيرة" حاداً، وربما هدف إلى محاولة إقناعها بكف يدها الغليظة عن بلد يحاول لملمة نفسه ليتجاوز آثار جراحة خطيرة.لكن الخبر الجيد أن "الجزيرة" لم تنجح حتى الآن في جر مصر إلى الصورة التي تريد أن تراها عليها، بينما نجحت مصر في توضيح صورة "الجزيرة" باعتبارها "أداة دعاية لمشروع سياسي غامض المقاصد" أكثر من أنها "مشروع إعلامي طليعي".* كاتب مصري