تجديد الفكر الديني بين إقبال والبغدادي
-1-لا شك أن المشهد العربي الحالي مشهد حزين ومؤلم، فما حصل ويحصل في كل من تونس، وليبيا، ومصر، وسورية، وغيرها، حزين ومؤلم.
والعرب جميعاً من مختلف الطوائف والتوجهات السياسية والدينية، يشعرون بالحزن والألم لما يجري الآن، ولهذه المرحلة التي بلغناها في هذه الدول المهمة، وخاصة في مصر وسورية، وهما بيضتا القبان العربي، كما يقال في الأمثلة الشعبية العربية.ومن هنا، أصبحنا بحاجة ماسة، وأكثر من أي وقت مضى الى تجديد الفكر الديني الذي يهيمن عليه اليوم جماعة من المتشددين والمتطرفين الدينيين الساعين إلى ركوب واختطاف الدين للوصول الى كراسي الحكم، شأنهم في ذلك شأن القراصنة في البحار في العصور الوسطى.-2-وعملية تجديد الفكر الديني عملية ذات مدى طويل، وتعقيدات سياسية واجتماعية وفكرية كثيرة، وهي قد تؤتي ثمارها بعد عشرات السنين أو أكثر، ويمكن ألا تأتي بأي ثمار فتذهب مع الريح، وقد شهدنا في القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين ما قام بها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من محاولات جادة ومخلصة لتجديد الفكر الديني، لم تجدِ نفعاً، وكانت -في نظرنا- بحاجة الى قوة سياسية للسير بها قدماً إلى الأمام. في حين نجح الحبيب بورقيبة عام 1957 في حركة الإصلاح الاجتماعي/الديني التي قام بها من خلال "مجلة الأحوال الشخصية" التونسية، التي كانت بمنزلة أعظم ثورة دينية/اجتماعية شهدها العرب طيلة 15 قرنا مضت.-3-الفيلسوف والمصلح المسلم الباكستاني الشاعر محمد إقبال، أدرك حقيقة أن قدر العالم العربي والإسلامي السياسي في الإسلام، وما لم نضع ضوابط صارمة لهذا القدر، فسيأتي يوم نعود فيه الى الفوضى المدمرة، وهو ما نشاهده الآن في أنحاء متفرقة من العالم العربي. لذا، فقد كتب محمد إقبال كتابه المعروف "تجديد الفكر الديني" الذي قام المفكر المصري المعروف عباس محمود العقاد بترجمته عن الإنكليزية ونشره في عام 1968. وفيه حدد اقبال وسائل وأهداف تجديد الفكر الديني والمنفعة التي ينتظرها المسلمون من وراء هذا التجديد. وتمت الحفاوة بهذه الخطوة، وبهذا الكتاب، حفاوة بالغة في الفكر السياسي العربي المعاصر، فكتب زكي ميلاد قائلاً:"محاولة محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الاسلام» تعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتم في العالم العربي والإسلامي, ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي. وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائراً في طريقة التعامل معها، قبضاً وبسطاً، إقداماً وإحجاماً. ويعد هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر".-4-وفي الكويت، كان المفكر والأكاديمي الكويتي الراحل أحمد البغدادي من كبار دعاة تجديد الفكر الديني في العالم العربي والإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، ليس إعلامياً عبر مهاترات وشعارات مجانية، تسعى الى الشهرة، ولكن عبر دراسة علمية جادة شرحها في كتابه (تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل، 1999).ففي هذا الكتاب، كان أحمد البغدادي ينتقد التشدد والتطرف الديني من موقعه الأكاديمي والعلمي، فكان انتقاده لجهل المتشددين المتطرفين من موقع العلم بهذا الجهل، ولم يكن من موقع الجهل بهذا الجهل. وأحمد البغدادي، عندما كان يتحدث عن خطورة التشدد والتطرف وجرائمه، كان يتحدث من خلال معرفته بالتاريخ، وتاريخ السياسة المتشددة المتطرفة في الماضي والحاضر، وليس من خلال أيديولوجية متعصبة، وعقيدة متصلّبة غير قابلة للأخذ والعطاء، كما الحال عند المتشددين المتطرفين، الذين استطاعوا في فترة ما، عزله من الحلبة الثقافية، لكي يتفردوا هم وحدهم بالرأي العام الكويتي.-5-وأحمد البغدادي، لم تكن غايته من كشف فضائح وآثام الجماعات المتشددة المتطرفة الإرهابية المسلحة، والتي ألحقت أضراراً بالغة بالأمة وبقضاياها ومصيرها، أن يكون في عداء مع الدين القويم السمح، الذي تجهله هذه الجماعات. ولو عرفته كما عرفه الشيخ الأزهري المصلح أحمد صبحي منصور مثالاً لا حصراً، أو كما عرفه الشيخ الأزهري خالد محمد خالد، أو الشيخ الأزهري خليل عبدالكريم، والذين يثبتون ألا دين سماوياً منح الحرية للمفكرين كما منحها الإسلام... نقول لو عرفته هذه الجماعات المتشددة المتطرفة، وعرفت أن الإسلام هو دين الحرية، لما حجرت على آراء المُعلِّم أحمد البغدادي.فالذي يعادي الدين السمح القويم كان على مرِّ العصور كالتيس الذي يناطحُ الصخر، والذي قال فيه شاعر العرب الأعشى:كناطح صخرة يوماً ليوهنهافلم يضُرها، وأوهى قرنه الوعلُ-6-إن أكثر الوسائل إقناعاً ونجاعةً للدفاع عن أحمد البغدادي، استعراض فكره في وسائل تجديد الفكر الديني ودعوته لاستخدام العقل في هذا التجديد، من خلال ما هو قائم من منطق العصر، والظروف الدولية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بعالم العرب والمسلمين. مع الأخذ بعين الاعتبار الأكيد، أن العرب والمسلمين في هذه البقعة من العالم ليسوا وحدهم على كوكب الأرض، وأن تقاطع المصالح وتشابك العلاقات أصبح من أهم مميزات هذا العصر، وأن العالم قد تغير بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد كارثة 11 سبتمبر 2001، وأن على الإسلام والمسلمين أن ينظروا لمصلحة الآخر قبل النظر إلى مصالحهم، إن كانوا يريدون من العالم الآخر أن ينصفهم في قضاياهم، ويتشيّع لهم في صراعاتهم ومعاركهم السياسية والاقتصادية والعسكرية.فالعالم اليوم، لم يعد إمبراطورية عربية – إسلامية كما كان من قبل، تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.العرب اليوم، أمة بحاجة إلى الآخر علمياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، كما لم يكونوا بحاجة إليه في أي وقت من الأوقات. ومن هذا المنطلق يقوم المفكرون من أمثال أحمد البغدادي بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني واستعمال العقل في هذا التجديد، لكي يفوّتوا الفرصة على المتشددين والمتطرفين، لأن يجددوا هذا الدين كما يريدون، وكما يشتهون، فتكون الطامة الكبرى كما هي الطامة الآن في العالم العربي، والتي تتمثل بهذه الفوضى العامة، وهذا السباق من المتشددين المتطرفين إلى اعتلاء منابر الرأي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ليقذفوا من عليائها هذه القذائف اليومية التي تدمّر مسيرة الفكر والثقافة الحرة.( وللموضوع صلة ). * كاتب أردني