-1-

Ad

مصر اليوم، مشغولة بمواد الدستور الجديد، الذي دار حولها خلاف كبير، خاصة بين الليبراليين المصريين بكل أشكالهم وفئاتهم المختلفة، وهذا أمر متوقع، فلو حكم الليبراليون مصر الآن، وأرادوا وضع دستور ليبرالي جديد، لاحتج عليه الأصوليون والسلفيون. وهو ما يجري الآن من احتجاج الليبراليين على دستور تصر النخب المصرية الحاكمة على ألا تخرج المسموحات والمحرمات عن نصوص الشريعة الإسلامية التي يخشاها الليبراليون خشية الأطفال من بعض ألعابهم.

ولنعلم جيداً، أن الخلاف بين اليمين واليسار المصري ليس خلافاً دينياً ولا دستورياً، بقدر ما هو خلاف سياسي.

فالليبراليون– للأسف الشديد- لا يفقهون الإسلام جيداً، ومنهم من لا يحفظ آية قرآنية كريمة واحدة، وهم يجادلون الأصوليين من خارج الإسلام ومن داخل الفكر الاشتراكي الألماني والغربي، وليس من داخل الإسلام، وهذا مكمن خطئهم الكبير والعظيم. وحفرة وقوعهم العميقة.

-2-

فالنصوص الشرعية في كل الأديان، جاءت للإصلاح وليس للإفساد، وللبناء وليس للهدم، وللعمل وليس للكسل، وللإبداع وليس للاتباع، والخلاف الوحيد يكمن في السؤال التالي، وهو:

- هل تصلح هذه الشرائع لنا الآن، كما صلحت لمجتمعات، عاشت قبلنا بقرون طويلة، وببيئة مختلفة، وبظروف مختلفة، وبتحديات مختلفة أيضاً؟

- وكيف السبيل إلى تعديل وتدوير هذه الشرائع، بحيث تصبح صالحة للتطبيق الآن، ولا تخالف روحها، لا سيما أن العالمين العربي والإسلامي ينقصهما الآن أئمة عقلاء وكبار، كأنس بن مالك، وكأبي حنيفة النعمان، والإمام الشافعي وغيرهم، لكي يأتوا لنا بفقه، ونظم، وشرائع جديدة، يمكن تطبيقها الآن، ولا تخالف روح الدين الذي انبثقت منه أصلاً؟

-3-

والسؤال الذي يخطر لي الآن كذلك، هو:

هل كانت مصر تحتاج الآن إلى دستور جديد يختلف عن دستور 1971؟

إن الدستور الجديد، يعني الجدة في المجتمع، يعني المجتمع الجديد، والشعب الجديد بقيمه الجديدة.

فما الذي تغيَّر في الشعب المصري، منذ 1971 إلى الآن، وخلال أكثر من أربعين عاماً.

إذن، ما حاجة مصر إلى دستور جديد؟

يجب أن يكون الدستور الجديد– في رأينا– فيه من الجدة والجديد، ما طرأ على سلوكيات الشعب المصري السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية الجديدة.

وفي هذه الحالة، تصبح نصوص الدستور سهلة الوضع والنص. وتصبح أقرب إلى الواقعية في التطبيق، وتكتسب احترام الداخل والخارج والقاصي والداني. ولا تستغرق وقتاً طويلاً في الإنشاء، والإرساء.

-4-

ورغم هذا كله، فالخلاف حول الدستور بين الليبراليين والأصوليين المصريين يظل مظهراً صحياً مفيداً، وحافزاً لبقية الشعب العربي خارج مصر، لكي ينحو نحو المصريين، في دستورهم الجديد.

فمصر هي المعلم، وهي "كابتن" الديمقراطية والحرية للشعب العربي الآخر، منذ أكثر من 150 عاماً.

فمن مصر عرفنا ما هي الديمقراطية، والتعددية، ومجالس الشورى، والأحزاب السياسية، والانتخابات، التي تجلّت في قيام أول مجلس للشورى عام 1829، أسسه محمد علي باشا. وهو أول هيئة نيابية مصرية. ثم قيام "المجلس الشوري" في عام 1866 الذي أسسه الخديوي إسماعيل، وتكوّن من 75 عضواً، يُنتخبون لمدة ثلاث سنوات، ولأول مرة في تاريخ العالم العربي.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، قام أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعلي عبدالرازق، ومصطفى عبدالرازق، وحسين هيكل، وغيرهم، بفتح شبابيك مصر على البحر الأبيض المتوسط، لتدخل نسائم عصر الأنوار الأوروبي.

وفتح هؤلاء المثقفون لنا نوافذ الفكر الغربي من الزمن اليوناني القديم حتى اليوم. وعرفنا في مصر المسرح بكل أشكاله ومدارسه، كما عرفنا الفن عامة. وحاول إبراهيم باشا أن يُطبِّع بلاد الشام خلال الحكم المصري لها (1831- 1840)، وأن ينقلها من الظلام العثماني الى النور العصري والحديث، إلا أن المؤسسة الدينية الشامية آنذاك، والمدعومة من "الباب العالي" العثماني وقفت في طريقه، واتهمته بالمجون، والشذوذ، والفساد، وقضت عليه، وطردته من بلاد الشام. فضاعت فرصة ذهبية تاريخية، على هذه المنطقة من العالم العربي.

-5-

ورغم هذا كله، فالخلاف حول الدستور بين الليبراليين والأصوليين المصريين يظل مظهراً صحياً مفيداً، وحافزاً لبقية الشعب العربي خارج مصر، لكي يضع دستوراً يحترم الإرادة الشعبية، ويرسي قواعد الحرية، والديمقراطية، والتعددية، ولا يصبح "بسطاراً" في قدمي السلطة السياسية، كما أصبحت الدساتير، في كثير من الأنظمة العربية الدكتاتورية المختلفة.

وعلينا أن نعلم جيداً، أن المصريين هم الأقدر علماً، ومنهاجاً، وسعة اطلاع، من العرب الآخرين لوضع دستور حديث ومناسب يراعي حقوق الإنسان على كل المستويات، ويحقق أهداف الثوار العرب، داخل مصر وخارجها.

ولا ننسى، أن مصر فيها من الحقوقيين الأكاديميين ما أمكنهم من وضع أول الدساتير العربية، واستعانت أنظمة كثيرة بهؤلاء، ومنهم الفقيه الدستوري الراحل عبد الرزاق السنهوري باشا (أبو القانون وابن الشريعة) أديب الفقهاء، وفقيه الأدباء، وعميد فقهاء القانون الدستوري في العالم العربي، وأحد أعظم القضاة في القرن العشرين، وصاحب الأحكام، التي انتصرت لحريات الأمة عندما رأس "مجلس الدولة"، في مصر، خلال مرحلة الغليان السياسي والاجتماعي، التي سبقت ثورة 23 يوليو 1952. وهو الذي وضع نصوص عدة دساتير عربية ما زالت قائمة الى الآن. وهو الذي أكد في كتابه "المدنية الإسلامية" أن الإسلام قوى، ولا خوف منه أو عليه. وعلى العرب الاعتماد على الإسلام.

* كاتب أردني