مع الدكتور مكية
تحت تأثير طقس عذب زرت د. محمد مكية، شيخ المعماريين العراقيين، في بيته. كان كنعان مكية حاضراً، وهو ابنه البكر، في زيارة من أميركا حيث يقيم ويدرّس. وكما عهدته في لقاءات سابقة باشر معي الحوار الجدي منذ لحظة وصولي: "ما كان لشوارع بغداد أن تُمد في موازاة نهر دجلة، وكأنها تُعطي ظهورها لأحد أنهار الفردوس. الأصح أن تتجه إليه. ما كان للبيت البغدادي أن يُغلق وكأنه ضريح، الأصح أن يظل مشرعاً من "الحوش" على الأفق. ما كان للمدن أن تُستعبد من قبل هيمنة السيارة، التي صنعت لخدمة الإنسان. الزمان والمكان والانسان عناصر جوهرية في العمارة. المبنى يجب أن يتناغم مع الأرض. والطابوق يجب أن يتناغم مع بناته...". يتحدث مراوحاً بين اللغتين العربية والانكليزية.لم يستطع أن يقف في استقبالي على عادته في استقبال أحد. فقدماه لا تقويان: "بلغتُ التاسعة والتسعين." قال مبتسماً. فحدثته عن الجذوة المتميزة لكل عقد في عمر الانسان. من بلغ التسعينيات ينفرد بجذوة بالغة الندرة، عميقة اللذاذة. فطوبى له. كنعان كان يجدني واقعياً، في حواري، عن بغداد والعراق عموماً، ويجد أباه حالماً. قلت كم ستكون واقعيتي خطرة بدون حلميته. لأن محمد مكية يتطلع لمشروع إعادة البناء للمدينة البائسة وكأنه واقف أمام مخطط هندسي على طاولة عمل. وأنا أقول إن المرحلة التي قد تمتد عقوداً لن توفر ساسة لهم أدنى دراية بأي شأن من شؤون الانسان، خارج محور سحر "السلطة"، "الثروة" والخوف من العدو المنافس.
ثم حدثته عن الوقت الممتع الذي صرفته مع كتاب عنه، صدر هذه الأيام ضمن نشاطات "بغداد عاصمة الثقافة لهذا العام"، كتبه معماري من جيل تالٍ هو د. علي ثويني. وكم كان الكتاب، على ضخامة حجمه، ممتعاً لا بفعل غزارة المادة فيه عن المعماري الكبير فقط، بل بفعل الطبيعة الرحبة للكتاب، التي تتسع للفكر الفلسفي والأدبي وفكر الحضارات القديمة، العراقية بصورة خاصة، ولتحديد الفارق بين العمارة العراقية، العربية، والشرقية وبين العمارة الغربية. إلى جانب العنصر السياحي الطليق في التناول. فعلي ثويني يتنقل على هواه على طريقة "الأمالي" في التأليف العربي في موروثنا الثقافي الأدبي. لأنه يعتقد أن هذا الأسلوب في التأليف ميل عراقي خالص. والمؤلف لا يُخفي حماسه العراقي الحار. فهو يؤمن أن العراق مغموط الحق من قبل إهمال عربي وغربي، مقصود أو غير مقصود. وحرارة حماسه ترتفع إلى أفق يكاد يكون على تماس مع أفق الإيمان العقائدي. والعقيدة، كما أحذر دائما، تتعارض مع العلم، ومع مسعى الكشف عن الحقيقة. على أن حماس د. ثويني جوهري في عنصر الامتاع في الكتاب. عنوان الكتاب "المعماري محمد صالح مكية، تحليل للسيرة والفكر والمنجز" (وزارة الثقافة، بغداد 2013 في 443 صفحة). ويتوزع على خمسة فصول، كل فصل ينطوي بدوره على أربعة أقسام."مكية الإنسان" ينصرف إلى المنشأ (ولد عام 1914) والمؤثرات في حياته المبكرة. فهو ينتسب لعائلة من الفرات الأوسط، سكنت في حي شعبي بقلب بغداد. شغف بالكتاب والعمارة منذ شبابه الأول. حصل على الدكتوراه من بريطانيا (1946) وعاد إلى العراق. ولكن الاستجابة لم تكن على قدر نشاطه وطموحه، فهجر العراق على مراحل بدأت في 1968، حتى استقر في انكلترا عام 1972 بصورة نهائية. الفصول الأخرى تحيط بفكره، ومنجزه، وإسهامه في تأسيس جمعية الفنانين العراقيين، وكلية العمارة وجامعة الكوفة، ثم ديوان الكوفة في لندن.الكتاب كما أشرت موسوعي، فأنت تقرأ فيه الكثير عن تاريخ العراق الحديث، والكثير عن الحضارات القديمة، والكثير عن الفكر، والفن، والكثير الكثير عن العمارة. ويعبر فيك الكلام عبر حشد من الصور لشخصيات، ومبانٍ، ومشاهد، وتصاميم معمارية. على أن الكتاب كان يستحق عناية أكثر في المراجعة الطباعية واللغوية.