حين يموت شاعر لا تعرفه تتذكر أعمالا له تعلقت بها وتركت حقلا أخضر جميلا في يباس روحك وترثي ذاكرة شعرية تركها كجزء من ثقافتك التي اخترتها أكثر من الرثاء الشخصي فيه. أما برحيل شاعر كان صديقا وقريبا منك لفترة من الزمن ولا تبتعد سيرته كثيرا عن سيرتك فإن حزنك عليه شاعرا وشخصا يكون أكثر ألما وفقده أكثر إيلاما.

Ad

رحل سليمان الفليح بشكل مفاجئ لنا نحن الجيل الذي عرفه في أول حياتنا ونحن نتلمس الخطوات الأولى في طريق الشوك. رحل سليمان دون أن أتمكن من أن أقول له وداعا، فمنذ أن افترقنا في رحلتين باتجاهين مختلفين لم نلتق.

في أوائل الثمانينيات تعرفت الى سليمان الفليح شاعرا مختلفا عن الجو السائد وغير متوقع من رجل تثقف على يديه هو لا على أيدي الآخرين. لم يكن لصحرائه التي عاش طفولته فيها يرعى القطا والإبل أن تقدم له سوى ذاكرة حية يتابع من خلالها حداء البدو وأهازيج الرعاة ويستمع للأصوات التي شكلت موسيقاه الشعرية. وحين توطن البدوي الكويت بقيت الصحراء ساكنة خلايا ذاكرته يغنيها ألما ولوعة وهي تتلاشى تحت وطأة المد العمراني ورحيل ساكنيها إلى مزيد من الصخب.

تناولت ديوانا صغيرا مستطيل الشكل بعنوان "الغناء في صحراء الألم" من مكتبة الربيعان دون أن أعرف صاحبه، جذبتني لغة الشاعر، ربما للمرة الأولى التي يخرج فيها شاعر في الكويت ليضيف اللون الأصفر الى اللون الأزرق. كان الشاعر زميلا لصديق أعرفه فعرفني اليه. في بيته الشعبي في مساكن الصليبية التقيت سليمان الفليح للمرة الأولى. تحدثنا عن تجربته وافترقنا لنلتقي مرات كثيرة في مناسبات عديدة. كان الفليح يعيش بداوته وترحاله من مكان الى آخر داخل روحه وخارجها.

عاش سليمان الفليح نزاعا عشناه جميعا بين امكانية التآلف مع المكان في زمن لم يسمح لنا بهذا التآلف. كأن الصحراء التي بعثرتنا ذات يوم هي القدر الأبدي لأرواحنا التي لم تستقر في مكان. عاش سليمان كل حياته الأجمل شاعرا كويتيا لا يحمل جنسيتها ويحمل حبها. نشأ تحت كنف حياتها الثقافية العربية المتنوعة، خدم في سلاحها وقاتل باسمها حروبها العربية ودافع عنها في أيام غزو العراق لها. لكنها لم تدافع كثيرا في سبيل بقائه فيها.

كنا معا في الرياض أيام المحنة نقف أمام بوابة نادي الملز لتسجيل أسمائنا في سجلات الجيش. نجلس في المقهى اليمني المقابل للنادي وبعد صلاة الفجر نحتل المكان الأول على الشباك وقبل أن تفتح البوابة يدفعنا العسكر المحتشد عن موقعا لنجد أنفسنا مرة أخرى في المقهى اليمني. كان يبتسم ويقول "الشعراء لا يصلحون لذلك التدافع".

سليمان الفليح رغم حدته أحيانا وشجاره معنا وخصامنا معه كان رجلا محبا طيب القلب نزقا لا يعرف الثبات ويكره الالتزام وكثيرا ما يطلب مني مدير التحرير أن أتصل به لاستعجال مقالته ويعدني ولا يأتي.

ها هو يغيب تاركا صوت الحداء الذي عشقه صدى في فيافي صحراء الألم، فوداعا لروحه النقية الطيبة.