لنقل في حوالي شهر، توفي لي أصدقاء مقربون (القاص عبدالستار ناصر في كندا، الكاتب صالح كاظم في برلين، الشاعر شيركو في استوكهولم، الفنان رمزي في لندن. وآخرون ليسوا بالقرابة ذاتها)، وأُصيب قرابة أربعة بالسرطان.

Ad

آخر انفجار إرهابي في مدينة الثورة ببغداد والانفجار الإرهابي في العراق يومي قتل 36 هم أرقام في نشرات الأخبار. والجرحى على حافة الموت لا يُحسبون. أعداد مُضاعفة للقتلى يومياً في سورية. في مصر وتونس وليبيا لا يعرف الزاحف داخل النفق إذا ما كان الضوء الذي يتراءى له في آخره حقيقةً أم هلوسةً. في بقية العالم العربي يعيش الانسان جزءاً يسيراً من فضائل ومتع الحياة التي وفرها الخالق له. أما الفراغ المتبقي منها فعفطة عنز، أو (بَعَرُ آرامٍ في عرصاتها، كما يقول أمرؤ القيس).

 أنا الذي أعتبرُني نائياً، وفي قلب الحياة الحديثة الآمنة قرابة ثلث قرن، أجدني اليوم وقد أُقحمتُ، من حيث لا أعي، عنوةً في شَرَكٍ لا إفلات من براثنه. الشرك الذي نسميها لسِسْتم ٍSystem (راجع ما كتبت عنه في عمودي هذا في 2011/8/11). وبالرغم من أنني لم أستطع اقتحام الزمن الغربي المتسارع (والزمن غير السِسْتم إلا أنه جزء منه) إلا أن الحاجات الجديدة التي أُمليت عليّ جعلتني رهين تعارضات لا فكاك منها. فأنا حرٌّ في صحبة زمني الداخلي بعد فقدان زمني القديم في بغداد، وعجزي عن اقتحام الزمن الغربي، لكني عبدٌ ذليلٌ للسِستم الغربي الذي زمنُه جزء منه. ولذا فذبذبات الزمن الغربي الذي لم أستطع اقتحامَه تتسرب إليّ مع أسلاك سِسْتمِه الشائكة.

ولأتمثل بشريحة شائكة واحدة من هذا الجهاز الغربي الكاسر بالغ الضخامة، حين جاء جهاز الكمبيوتر أقبلتُ عليه كما أُقبل على رحمة حلّت على الكتابة والكتّاب. ثم دخل الانترنيت شمساً ثانية. وقفز إلى اليد جهاز الموبايل. وصارت هذه القوى الثلاث تتبادل الخدمات، فإذا الموبايل تلفزيوناً أيضاً، والتلفزيون إنترنيت أيضاً. وصارت القوى تتنافس مع خيالها لتكون الأسرعَ زماناً، والأوسعَ مكاناً، والأكثرَ خدمات.

كنتُ في الثمانينيات والتسعينيات أذهبُ، إذا ألمّتْ بي حاجةٌ، إلى الأصل أو الفرع من شركة الاتصالات البريطانية. اليوم، وبعد تكاثر الشركات ويسر التواصل وتنامي الجشع في سوق التنافس، أنهتْ الشركات جميعاً حاجتها إلى المكان، إلى الوسيلة الانسانية للتواصل، وانتخبت أماكن في البلدان الجائعة، افريقيا وآسيا، حيث اليد العاملة بالغة الرخص. صرت أتواصل عبر الأثير مع قوى مُفترضة لها صوت، يصدر من كائن أو آلة. تماما مثل التواصل بين ملايين الأصدقاء الافتراضيين على الفيسبوك أو ما يشبهه. وفي كل اتصال أجدني أتحدث مع صوت افتراضي لا أُحسن لهجته. ولا يمكن في اتصالين متتاليين أن تتحدث مع الشخص ذاته. فإذا اضطررت إلى اتصالات عشرة لحل إشكال ما، فستعيد حكايتك مرات عشرة على آذان مختلفة. ومن الصعب أن تتطابق الإجابات. ومن المثير (للأعصاب) أن الصوت يتحدث إليك في كل مرة بسياق مُصاغ مسبقاً، مثل الآلة تماماً: "نعتذر إذا ما كان التعامل معك غيرَ مُرْضٍ.""كيف ترى تعاملنا: جيد، متوسط، رديء؟"وحتى لو قلت "رديء جداً". يجيبك الصوت "شكراً جزيلا على اتصالك بنا. هل هناك شيء تحب أن تضيفه؟".

وستتلاحق الأوقات الصعبة عليك إذا ما حدث التباس داخل شبكة السِسْتم في العالم الافتراضي غير المرئي. فسينقطع التلفون عن غير إرادة من أحد، ويليه الانترنيت. وتبدأ تشغل وقتك بالاتصالات به من خارج البيت، وكثيراً ما تبدو لك غير مجدية. وإذا بك، إذا ما كنت شاعراً وكاتباً مثلي، تتبدد في فضاءات هذ العالم الافتراضي دون قراءة ولا كتابة. ودون رسم أو موسيقى إذا ما كنت مولعاً بالرسم والموسيقى أيضاً.

هذا هو المدارُ الذي أنا محوره. فكيف لا أجدُ سكينةً بين دفّتيْ كتبِ أبي العلاء المعري وشوبنهاور؟